وقف أمام الرسول الكريم مرتعدا وقلقا كما لو أنه يقف أمام ملك أو محارب، قال له وهو يمنحه السكينة والأمان "هون عليك، إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد بمكة". وقريش هذه المتخمة بشرف الأنساب كسرتها عدالة "ثم أفيضو من حيث أفاض الناس". وكيف لرجل جاء رحمة للعالمين كي يُختزل في بيت وعائلة، سيكون ملكا أو محاربا، لكن النبوة أمر آخر. في أشهر خطبة له أمام أكبر حشد، في حجة الوداع، كان هذا الرجل العظيم يعنون للأمة أدواءها ويضع الدواء. تأمل فقط هذه العناوين في خطبة يبدو أنه كان يشعر أن هذا الحشد لن يجتمع مرة أخرى وقد صارحهم بالقول "لعلي لا ألقاكم بعد عامكم هذا"، فهي إذن الوصايا الحاضرة بقوة في اهتمامات هذا الرجل العظيم، حيث سيقول الكلام الذي لا يجب أن يغيب أو ينسى: "ان ربكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم. ليس لعربي فضل على عجمي الا بالتقوى. ألا هل بلّغت؟ اللهم فاشهد". "فاتقوا الله في النساء، واستوصوا بهن خيرا". "أيها الناس، ان دماءكم وأموالكم حرام عليكم الى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلّغت؟ اللهم فاشهد". "فمن كانت عنده أمانة فليؤدها الى من ائتمنه عليها. ان ربا الجاهلية موضوع". هذه هي العناوين التي يقولها رجل يشعر أنه يجب أن يتحدث فقط عن العناوين الأكثر إلحاحا وأهمية في جمع كبير لا يمكن أن تختلف علي حجيته الرواة والناقلون للسيرة من بعده. هذا الرجل العظيم لم يكن يبحث سوى عن العدل و كان في كل رحلته يفتش عن الإنسان وتلك هي جوهرة الدين العظمى، بل وكل الديانات أيضا "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط"، فالعدل هو الغاية ووسيلة نفاذه هم الناس. في حضرة هذا الرجل المملوء باليقين كان الناس يمتلئون بالأمان، بينما ينصر بالرعب مسيرة شهر، لقد علمه القرآن "أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين"، والخوف جريمة، ولهذا امتن الله على قريش "وآمنهم من خوف" وكان هذا الرجل يوزع على القاطنين الآمان إلى البيوت. سأحتفل أنا بمولد القيم، لأن صاحب القيم كان يعلم "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، إنما أنا عبد الله ورسوله"، وأمام هذا العبد أشعر بالعدل حيث أكون إلى جواره عبدا، وأشعر بالأمن حيث لايخاف في حضرته من يؤمن به. وحيث يسألني العالمون عنك سأقول لهم عن الرجل الذي وقف يتيما في الصحراء ثم فجر منها الينابيع ومات ودرعه مرهونة عند يهودي.