بعيداً عن ضجيج السياسة وصخب الأزمات، يُجري الجيل الثاني للأسرة الحاكمة ترتيبات على نار هادئة لانتزاع أرض جديدة في إطار الصراع الصامت مع مراكز القوى والنفوذ القديمة، وبالأخص تلك التي تُشكل جزءاً كبيراً من قوام ما بات يُعرف ب(المركز المقدس).. الأرض الجديدة المُرشحة للانضواء تحت جناح الأولاد، هي الجزء المتبقي من الجهاز الإداري للحكومة الذي لا يتبع الأولاد، إذ يُتوقع أن تشهد قادم المراحل استحداث مواقع إدارية (نوعية) يتم إسنادها -وفق ترتيب معقد التمويه- إلى أتباع الأولاد وأنصارهم، بحيث يلي ذلك إقصاء منظم على مراحل مدروسة لقيادات الصف الحكومي الثاني ابتداءً بوكلاء الوزارات وانتهاءً بمدراء الإدارات.. حسب شواهد الواقع، يمكننا الجزم (حتى الآن) أن استفادة الأولاد من مؤتمر لندن لن تقتصر على الجانب الأمني بحجة الحرب على الإرهاب فحسب، فثمة استفادة أخرى ستنتج من الإجراءات الالتفافية التي سيقومون بها لتكييف الالتزامات الحكومية أمام المؤتمر، ومنها إعادة هيكلة الحكومة وذلك لخدمة الأجندة الأسرية والوراثية وبما يؤدي للفوز بالأرض الجديدة الفائت ذكرها.. * سيناريو السيطرة قريباً، ستكون وزارات الحكومة على موعد مع أكبر عملية منهجية للتصفية والإقصاء تحت شعار "برنامج جذب ذوي المواهب للعمل في الخدمة المدنية" وهو -أي الشعار- بالمناسبة، يُجسد النص الحرفي للأولوية الأولى من الالتزامات العشر التي تعهدت الحكومة بتنفيذها أمام مؤتمر لندن.. وفق المعلومات المتاحة، فثمة سيناريوهات عدة لازالت قيد الدراسة فيما يتعلق بالآلية التنفيذية ل"برنامج جذب المواهب" سنكتفي بذكر أبرزها، والمتمثل بالتعاقد مع إحدى الشركات الأجنبية المتخصصة في الإدارة الحكومية والمؤسساتية لإعادة الهيكلة الإدارية للجهاز الحكومي التي ستنفذ على ثلاث مراحل، الأولى: استحداث مناصب نوعية في خمس وزارات هي: المالية والتخطيط والكهرباء والصناعة والتجارة والخدمة المدنية. الثانية: استحداث مناصب نوعية في باقي الوزارات، ومن ثم البت في إعادة الهيكلة وتنفيذ سيناريو الإقصاء كمرحلة ثالثة.. حيث ستقوم الشركة باستحداث مناصب إدارية جديدة بصلاحيات مرتفعة في هياكل مختلف وزارات الحكومة بالنسق التسلسلي الآنف توضيحه، كما ستُشرف (في مرحلة لاحقة) على نسبة كبيرة من قرارات التعيين والعزل في المناصب الموجودة حالياً ضمن الهيكل الحكومي وتحديداً تلك التي تبدأ بوكلاء الوزارات ومادونهم.. حسب المعلومات أيضاً، فالشركة ستستعين بخبراء في فن الإدارة لوضع شروط ومعايير شغل الوظائف المُستحدثة (النوعية) على أن تُعلن تلك الشروط قبل فتح باب الاستقبال للراغبين في شغلها ومن ثم إجراء مفاضلة بين ملفات المتقدمين لاختيار الفائزين بتلك المناصب النوعية الذين سيتقاضون راتباً كبيراً خمسة آلاف دولار شهرياً. * وظائف مفصلة على مقاس الأتباع إلى هنا يبدو الأمر جميلاً، لاسيما في ظل مساحيق الشفافية التي يتم الترويج لها باحتراف لإسناد الفكرة سياسياً، غير أن الجمال البادي لا يلبث أن يتحول إلى النقيض لمسببات عديدة.. التشكيك في ارتباط الشركة بالأولاد، قد يبدو للوهلة الأولى ضرباً من اللامعقول بالنظر إلى شرط أن تكون دولية، غير أن نقاط ربط كثيرة ستعزز هذا الافتراض وبالأخص في حال انتقاء شركة بعينها (كتلك الشركة الأميركية التي قامت بإعادة هيكلة إمارة دبي!) دون إفساح المجال للتنافس بين الشركات العالمية عبر مناقصة دولية واضحة الشروط والمعالم.. بافتراض نزاهة الشركة وانعدام إمكانية التلاعب والتوجيهات بشقيها الأمني والفوقي، وهو افتراض بالمناسبة خيالي، لن يكون في وسعنا التفاؤل! لاسيما إذا ما علمنا أن أرباب هذه الفكرة خاضوا مرحلة اعتكاف مطولة لاستقطاب الشخصيات الأكاديمية والعلمية المؤهلة التي تنطبق عليها شروط ومعايير شغل تلك الوظائف الحساسة، وبالتالي فغالبية المناصب (النوعية) المُنتظر استحداثها وإخضاعها لطائلة التنافس، ستأتي مفصلةً على مقاس أتباع الأولاد الذين جرى استقطابهم خلال آنف المراحل استعداداً لهذه الخطوة..! * توظيف مؤتمر لندن لخدمة الأجندة الأسرية فكرة استحداث مناصب (نوعية) لم تأت من فراغ، فأجهزة الرصد والتحليل التابعة للأولاد مضافاً إليها الآراء الآتية من طواقم المستشارين، خلُصت إلى صعوبة تنفيذ خطة حل وإبدال مباشرة لإقصاء شاغلي مواقع المستوى الثاني في الوزارات الحكومية، وبالأخص أولئك المحسوبين منهم على مراكز القوى القديمة الحاصلة على إمتياز الشراكة السلطوية عبر (الحلف المقدس).. إذ إن تنفيذ عملية حل وإبدال مباشرة، سيؤدي لانتقال الصراع من مرحلة (الصمت) التي استقر فيها بأعجوبة إلى مرحلة الضجيج، لتغدو الحرب الباردة مفتوحة وساخنة وغير مضمونة النتائج لدى الطرفين، لاسيما في ظل التعقيدات البالغة التي تعيشها البلاد.. لذا كان اللجوء للتحايل عبر ابتكار (المناصب النوعية)، اضطرارياً وخطوة تمويهية لا تخلو من ذكاء في توظيف مؤتمر لندن لخدمة الأجندة التوريثية.. الخوف من فقدان الحكومة بالنسبة للجيل الثاني، ليس كافياً أن تكون مناصب الصف الأول (الوزراء ونوابهم) خاضعة للسيطرة، إذ إن تسيير الأعمال والمهام اليومية مرتبط بالوكلاء والمدراء ورؤساء الأقسام، الذين يُشكلون الإدارة التنفيذية للوزارات.. وعليه فرغم أن شاغلي مناصب الصف الأول، أو لنقل غالبيتهم على سبيل الدقة، يدينون بالولاء (النفعي) للجيل الثاني، إلا أن احتمالية فقدان الحكومة (حتى وإن كانت ضعيفة) عبر الانتخابات في حال أجريت، شكلت دافعاً إضافياً، للتفكير في الاستحواذ على حصة مراكز القوى الأخرى في الوزارات عبر الالتفاف عليها مؤقتاً (المناصب النوعية) وصولاً لإقصائها عندما تلوح الفرصة وتساعد الظروف..! * هل أُرغمت الحكومة على الفشل..! استشراء الفساد، سوء الإدارة، فقدان الثقة الدولية في الجهاز الحكومي، تلك وغيرها مسببات وذرائع استغلها الجيل الثاني -هذا إن لم يكن ساعد في صنعها- وذلك للحصول على إسناد دولي يبرر وينظم السيطرة الممنهجة على الجهاز الإداري للوزارات بحجة تنفيذ التزامات مؤتمر لندن..! خلال آنف المراحل، أُرغمت الحكومة -أو هكذا يبدو الأمر- على ارتداء حله الفشل في استيعاب الدعم المالي المُخصص من قبل مؤتمر المانحين لتأهيل اليمن.. مآل الفشل الذي تسبب في إغضاب المانحين، جسد مبرراً لإنشاء حكومة مصغرة بمسمى "المكتب التنفيذي للحكومة" تحت إشراف الأولاد وتحديداً نجل الرئيس.. فكرة المكتب تلخصت في بحث مسببات فشل الحكومة في استيعاب دعم المانحين، واتخاذ الإجراءات اللازمة لتحويل ذلك الفشل إلى نجاح وسط متابعة من سفراء الدول المانحة المقيمين في صنعاء.. غير أن الحكومة المصغرة، لم تفلح -أو هكذا أراد المُخرج- في تجاوز مرحلة الفشل رغم إحرازها لبعض التقدم ربما على سبيل التمويه..! وهو أمر تم تفسيره من قبل المانحين على أساس (عدم كفاءة الإدارة) الذي يستوجب بالضرورة إعادة الهيكلة الإدارية الحكومية عبر "برنامج شامل لجذب ذوي المواهب للعمل في الخدمة المدنية" وبالتالي استحداث مناصب جديدة لصناعة القرارات وفق شروط مرجعية (اختصاصات)..! وهي ذات الأفكار التي تضمنها الالتزام الأول من الأولويات العشر التي تعهدت الحكومة أمام مؤتمر لندن بالعمل على تنفيذها..! * المتضررون بين الرفض والتسليم لن يكون خيار الاعتراض متاحاً بالنسبة للشركاء المتضررين من التداعيات المترتبة على البدء في تنفيذ هذا البند.. إذ إن الاعتراض سيؤدي لإبراز تلك القوى -أمام رعاة مؤتمر لندن- كحجر عثرة في طريق الإصلاحات الاقتصادية والسياسية بالتوازي مع تبرئه الأولاد وأبيهم) من تهمة العبث وعدم الجدية في تنفيذ التعهدات والالتزامات المُضمنة في قائمة الأولويات العشر..! لذا لن يكون في وسع القوى المُرجح تضررها من ترتيبات الأولاد سوى السعي للمشاركة في التنفيذ وحشد الأتباع من المؤهلين لشغل تلك الوظائف والتشديد في معايير الاختيار ودفع شاغلي المناصب المُستهدفة لتطوير قدراتهم الذاتية كتدابير استباقية لمخططات الإقصاء.. عدا ذلك، فالخيارات الأخرى (الرفض والمقاومة) سيترتب على اتخاذها انعكاسات ونتائج وخيمة، فرعاة مؤتمر لندن -على رأي إخواننا المصريين- عاوزين كده..! ولا سبيل لمجابهة إرادتهم في توقيت كالذي تمر به البلاد.. * وماذا بعد الترتيبات المسبقة، وسيناريوهات التخطيط المبكرة، والاتحاد العجيب بين رغبة المجتمع الدولي ورغبة الأولاد، كل ذلك يجعلنا نُرجح التحاق الأرض الجديدة (الجهاز الإداري الحكومي) في قائمة مكتسبات الأولاد بانتظار أي مفاجآت قد تطرأ من ردود فعل المتضررين الذين ربما قد يلجأون لكظم الغيض والاعتراف بسيادة الأولاد على الأرض الجديدة..! مخططات السيطرة الأسرية والتوريثية إذن، تمضي قدماً بتسارع لافت ونهج منتظم وترتيب رفيع والتقاء مريب مع الأجندة الدولية، والعكس يبدو واضحاً لدى مناهضي المشروع الأسري.. ببساطة.. يمكن القول أنهم -أي الأولاد- المستفيدون الوحيدون (على الأقل حتى الآن) ليس من مؤتمر لندن ونتاجاته فحسب، بل ومن الفوضى والأوضاع المتردية التي يعانيها الوطن.. السؤال المطروح: هل سيكون الحصاد الأسري التوريثي موازياً للاستفادة..؟! رغم كل شيء لازلت أشك في ذلك وكفى..!