لا يمكن أن نقبل بسهولة مبررات "السلطة" لرفع الدعم عن المشتقات النفطية حلاً لمشكلة العجز في الموازنة العامة.. نقول ذلك كما قلنا وقال كثيرون ذلك سابقاً لسلطة نظام المخلوع علي صالح.. وللأسباب والحيثيات نفسها! وبداية أرجو ملاحظة استخدامنا لكلمة "السلطة" وليس حكومة الوفاق أو وزير المالية صخر الوجيه.. فالخطأ السياسي الكبير أن يتصدى للترويج أو التبرير للجرعة صخر الوجيه أو الحكومة؛ في الوقت الذي يجب أن تكون مسؤولية "السلطة" كاملة بما فيها رئاسة الجمهورية وكامل الحكومة؛ أما السماح بتقديم الأمر إعلامياً على أنه قرار جزء من الحكومة أو وزير المالية فهو موقف غير حكيم.. وسوف يُستغل إعلامياً وسياسياً ضد أي توجه حقيقي للتغيير والإصلاح الحقيقي للاختلالات الموروثة!
ولأن مبررات رفض الجرع السعرية تكاد لم تتغير؛ فالواجب على السلطة القائمة أولاً توفير إجماع سياسي بين أطرافها على ضرورتها إن أرادات المضي في هذا الطريق.. لا أن يعمل جزء من الحكومة والسلطة ضدها في الوقت الذي سوف يستفيدون فيه من أي إيجابيات قد تحدث نتيجة لها بحكم أنهم مشاركون في السلطة.. وهاهم المؤتمريون منذ الآن يهيّجون الدنيا إعلامياً ضد مجرد الإشارة في البرلمان إلى أن رفع الدعم عن المشتقات النفطية هو الحل لمواجهة عجز الموازنة؛ فما بالنا لو تم تنفيذ الجرعة بالفعل؟
ما هو واجب على السلطة بكامل أركانها أن تثبت للشعب أولاً أنها استنفدت كل الوسائل لخفض عجز الموازنة قبل أن تطلب من اليمنيين قبول الجرعة بكل ما قد يترتب عليها! وبمعنى آخر فليس المطلوب من رئيس الجمهورية أو رئيس الحكومة أو وزير المالية أو غيرهم من المسؤولين أن يظهروا أمام الشعب للقول بأن رفع الدعم هو الحل.. فالأصل قبل ذلك أن يقدموا للراي العام ما يؤكد أنهم لم يلجأوا إلى هذا الحل إلا بعد أن عملوا كل المطلوب لتخفيف العجز، ولم يبقَ إلا رفع الدعم!
وبمعنى آخر فإن هناك خطوات تقشفية متعددة من الضروري اتخاذها وبجذرية قبل إعادة إنتاج أساليب الأنظمة السابقة في تحميل الشعب عبء فشل السياسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وحتى يقتنع الشعب بأن رفع الدعم هو العلاج الوحيد المتبقي.. وعلى سبيل المثال فإن على مسؤولي الدولة أن يظهروا للشعب أرقاماً واضحة عن التخفيضات التي أجروها في بنود موازنة الدولة الخاصة بالمكآفات والعلاوات، وبدلات السفر والعلاج والوقود، وأمثالها من البنود الخاصة بمصاريف مسؤولي أجهزة الدولة دون استثناء، مدنية أو عسكرية.. وصولاً إلى التخفيضات الجذرية التي تم إجراؤها في موازنة الجهات السيادية؛ بما فيها رئاسات الجمهورية والحكومة ومجلسي النواب والشورى وأمثالها من المجالس والهيئات الكثيرة في البلاد؛ التي لها حصص كبيرة من الموازنة العامة للدولة.. ونحن هنا لن نذكر مصلحة شؤون القبائل لأن كثيرين أشاروا إلى موازنتها في تناولاتهم للموضوع.. ولكن نخص بالإشارة الجهات التي ستتولى الترويج للجرعة وتبريرها!
(خذوا مثالاً على السفه في الإنفاق في مؤسسة سيادية حيث قام رئيسها خلال الأسابيع الماضية بصرف خمسين ألف دولار فقط بدل سفر لنفسه أثناء سفره لمدة أربعة أيام لإجراء فحوصات طبية في السعودية تتم بالضرورة كل تكاليفها على نفقة الأشقاء.. هذا فضلاً عما يمكن أن يكون قد تم صرفه للمشار إلى تقشفه من جهات أخرى!).
ولأنه من المتوقع أن تكون أعلى الأصوات المنددة بالجرعة صادرة – على غير العادة هذه المرة- من الكتلة البرلمانية للمؤتمر؛ فالأولى أن يكونوا قدوة في المطالبة بتخفيض موازنة المجلس التشغيلية بنسبة 50 في المائة على الأقل؛ على أساس أنه صار زائدة سياسية، وأن يتنازل النواب عن مخصصاتهم من غير المرتب إن أرادوا بالفعل إقناع الشعب أنهم ضد الجرعة.. كما أن هذا الموقف التاريخي منهم سوف يجعلهم أكثر مصداقية وبهررة وهم يتتبعون مصداقية تخفيض مخصصات الجهات الأخرى، ويمارسون الرقابة الحقيقية للمرة الأولى في تاريخهم!
وهكذا تبدأ عملية التقشف في اليمن من فوق ثم تنزل درجة.. درجة، ولا تصل إلى لقمة المواطنين إلا بعد أن تعلن الأممالمتحدة السلطة اليمنية بأركانها: منطقة معرضة للموت من التقشف.. وقد قيل في سيرة عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ إن الصحابة كانوا يقولون: إنهم تمنوا انقشاع المجاعة التي أصابت المسلمين في عهده خوفاً على حياة عمر الذي فرض على نفسه وأقاربه حياة تقشفية حادة ليكون قدوة للمسلمين في مواجهة المجاعة.. وليس أن يكونوا هم القدوة في تحمل عبئها!
المهم في مواجهة أزمة عجز الموازنة هو أن تكون الدولة بمسؤوليها قدوة في تحمل العبء.. فإذا حدث ذلك ووجد الشعب مصداقية فيهم فثقوا أنه سيكون مرحباً بأي إلغاء للدعم.. وربما تكون المشكلة حينذاك في رفض المسؤولين للجرعة.. خوفاً على أنفسهم!