يقع هذا الوادي شمال مدينة إب، حيث يمتدد من أطرافها الشمالية حتى يصل إلى مديرية القفر. نستطيع القول إنه جزء لا يتجزأ من مديرية المخادر، ولقد كان قديماً السلة الغذائية التي ترفد جميع مناطق اليمن بالقمح وبأنواعه المختلفة، وقد قيل قديماً: يا هارب من الموت .. ما احد من الموت ناجي ويا هارب من الجوع .. عليك بسحول ابن ناجي. وسحول هو ابن أول شخص قطن هذا الوادي، وقد ورد في الأثر أن الرسول صلى الله عليه وسلم كُفّن بثياب سحولية.
عندما وطئت قدماي مجرى المياه أو السائلة، ذهلت لهول المأساة. اجتاحتني كل مشاعر الأسى. صرت لا أصدق ما يحدث هنا. من كان يصدق أن الماء سينضب هنا وهو قبل عشر سنين كان يفيض من كل مكان! كانت مجرد ضربة في حفرة صغيرة كفيلة بإخراج سيل من المياه. نظرت يميناً وشمالاً، وبدلاً من أن أرى حقول القمح والتفاح والموز، أرى القات مرصوصاً كمارد أو شيطان يتربص بالجميع. ومع أن المهاجرين إلى هذا الوادي ظهرت عليهم أمارات المعيشة الحسنة وبحبوحة العيش نظراً لبيع القات، إلا أنهم لا يفكرون أنه في المستقبل القريب سيرحلون من هذا الوادي جياعاً كما أتوا إليه جياعاً لأن المخزون المائي بدأ ينتهي، وذلك نظراً للآبار العشوائية المحفورة في كل مكانز الفوضى والعبث واللامبالاة هنا من دون حدود؛ فوضى في زراعة القات، فوضى في بناء المنازل، فوضى في حفر الآبار. والعجيب أنه كلما جاء مهاجر آخر غرز خنجره (بئر) في باطن هذه الأرض المعطاء ليتركها تنزف وتموت من دون أن يتدخل أحد. الكل هنا صامت، بل إنهم يدمنون الصمت والعبث، لكنهم لا يعملون أن الموت في هذا الوادي صامت أيضاً، فهو يتربص بهم من كل مكان، وساعة الصفر ينقض على أعناقهم فيذبحها من دون رحمة! لقد بدأ الموت فعلاً يتحسس رقابهم، فصغار مزارعي القات بدأت مزارعهم القاتية تيبس لأن الماء القليل أصبح من حق كبار المزارعين الذين يمتلكون الآبار. عندما كنت أمشي متتبعاً مجرى المياه سابقاً كنت أقول لنفسي: أما عين العقيق فمستحيل أن تنزف! هذه العين كانت تنبع من هذا الوادي بغزارة، ولقد رأيتها أيام الطفولة عدة مرات. سألت أحد المزارعين الآن عن هذه العين، فأجاب بأنها قد نضبت منذ عشر سنين، والسبب هو حفر هذا البشر. قلت له: كيف سمح لهم بالحفر وهم يعلمون أن هذه العين تمد معظم المزارع بالماء؟ فقال: يا أخي إذا كان معك مال وجاه في هذا البلد ممكن تعمل أي حاجة تريدها حتى ولو كانت مخالفة للقانون.
القانون هذا مجرد نكتة عابرة يتداولها الذوات في مجال القات. مجرد قواعد وأطر لا تتجاوز اللافتات والكتب التي كتبت عليها. مستقبل أجيال سيضيع والكل غارق في جلسة سليمانية تنتهي بانتهاء القات من الفم. لا شيء في هذا الوادي يدفعك للمشي؛ فمجرى المياه يمر بأطراف مدينة إب، ولا شيء يمكن أن تستفيد منه، فعن يمين المجرى ويساره -بامتداده الطول- مزارع القات، لا تستطيع هنا أن تُمتع ناظريك بأي منظر زاهٍ غير منظر الموت القادم من بين أغصان هذه الشجرة الخبيثة! بدأت أواصل المشي من دون أي بادرة أمل، فصدمت أنفي رائحة نتنة أستنشقها لأول مرة. نظرت إلى أعلى الوادي فوجدت ثلة من المزارعين يرشون القات بالمبيدات الحشرية التي تنبع منها هذه الرائحة، فأدركت أن البؤس هنا لا يأتي من طرف واحد فقط، البؤس والألم هنا يتنوعان ويأتيان من عدة أطراف، فالإضافة إلى مشكلة نضوب الماء، الأمراض التي تسببها هذه المبيدات منتشرة في سكان هذا الوادي، فالسرطان والقرحة والهلوسة والاكتئاب أمراض بارزة للعيان.
الوجه الآخر لهذا الوادي عندما تزور هذا الوادي يجب أن تتحلى بقدر وافر من الحكمة والصبر والشجاعة، فمن الممكن جداً أن تدخل في عراك مع أي شخص تلقاه، وهذا ما رأيته بأم عيني في هذه الزيارة، إذ تسمع بكل لحظة أزيز الرصاص وترى الشجار يستبد بالناس هنا، وكلما مشيت ترى وجوهاً وأجساداً غريبة، فشخص شعره إلى ظهره والغبار يحوطه من كل ناحية، وآخر مدجج بكل أنواع الأسلحة، وأطفال في عمر الزهور يحملون المسدسات ويتزينون بالرصاص، وهكذا تستطيع القول أن هناك انفلات أمني، حيث أصبح المرء المسالم يخشى على حياته، صار الوادي ملاذاً للقتلة وقطاع الطرق نظراً لما تحتاجه زراعة وحراسة القات من أشخاص لهم صفة العدوانية. إضافة إلى أن المال الذي يجنيه المزارعون من القات يجعل نفوسهم تتسم بنوع من الغرور والكبر، فأصبح كل شخص يتكبر على جاره أو ابن عمه، وهكذا تدخل المشاحنات والمشاجرة التي تنتهي غالباً بالقتل، وقد أصبحت عادة رمي مواصير المياه بالرصاص ظاهرة متكررة هنا، وكلما سألت أحدهم عن سبب هذا الرمي غير المبرر، أجاب لأن المواصير تنقل الماء لمزارع دون آخر.
أين الحكومة الإنسان الباحث دوماً عن ملء بطنه يتصرف لهذه الغاية بتصرفات قد تدمر مستقبله ومستقبل الأجيال التي تأتي بعده، وذلك نظراً لغياب الحكومة التي ترشده للطريق الصحيح، وغياب القانون الذي يردعه إن حاول أن يسلك أي طريق شاذ، حيث كان من الممكن أن تتلاقى مشكلات هذا الوادي بالدور الحكومي الذي يعين البائس ويرشد الضال، ولو وجدت خطة زراعية واضحة وسعي واع من قبل النظام لما أصبح حالنا هكذا.
المشكلة والحل تكمن مشكلة هذا الوادي في غياب الوعي وتفشي الجهل بين الناس. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، غياب الدور الحكومي الفاعل. ومن ناحية ثالثة، بروز ظاهرة تفاوت الناس بين طبقة كبيرة لها الامتيازات وطبقة أخرى تعيش على الهامش. أما الحلول فهي موجودة. وكل مشكلة لها حل إن وجدت القلوب المخلصة لتبني أي حل ناجع. وسأسوق هنا عدة حلول لمن يهمه مستقبل الأجيال القادمة. - تثقيف المواطنين بأهمية الماء حاضراً ومستقبلا. - عدم حفر الآبار الارتوازية. - الحد أو التقليل من زراعة القات واستبداله بمحاصيل أخرى. - الحد من الانفلات الأمني البارز للعيان في هذا الوادي. - عدم استعمال المبيدات الحشرية إلا للضرورة القصوى. - التقليل من الهجرة إلى هذا الوادي.