كما ضيع بعض العرب الوطن في صيف 1967؛ فقد كرروا المهزلة وضيعوا الحرية والديمقراطية الأولى من نوعها في تاريخهم في الصيف أيضاً.. وكأن هذه الأمة موعودة مع العسكر بالهزائم التاريخية في الصيف عادة! ومع فارق أن هزيمة 1967 كانت هزيمة عسكرية وإن كانت الأمة لم تتخلص من آثارها حتى الآن.. وأما هزيمة الديمقراطية فهي هزيمة قيم ومبادىء تورطت فيها قوى سياسية وفكرية كان الناس يظنونها طلائعية تقود الأمة للتخلص من أسوأ أمراضها السلطوية الاستبدادية، وترسو بها على بر الحرية والديمقراطية الحقيقية بحلاوتها ومرها؛ بعد أن تعلمت من دروس هزائم خمسين سنة وانتكاساتها أن فساد الأنظمة، واستبدادها كان الثغرة التي تسللت منها الهزائم، وفشلت بسببها كل خطط التقدم والتطور! وحلاوة الحرية والديمقراطية لا تحتاج إلى شرح.. لكن المر فيها هو أن يتقبل الذين يخفقون في الانتخابات فشلهم بروح ديمقراطية، ويهنئون الفائز بالأغلبية، ولا يلجأون بعدها لأي أسلوب غير ديمقراطي للتعبير عن معارضتهم للسلطة إلا وفق الوسائل السلمية المشروعة المعروفة: لا مؤامرات.. ولا انقلابات.. ولا إثارة للفوضى والتحريض على التمرد حتى موعد الاستحقاق الديمقراطي التالي! وفي أقل من عام على ربيع مصر انتكست معظم القوى التي طالما نادت بمدنية الدولة، وضرورة إبعاد العسكر عن السياسة، وهللوا لعودة الجيش والدبابات والمصفحات إلى سدة الحكم من جديد، ونسوا أن العسكر في عالمنا عندما يبلغون السلطة لا يتركونها بسلام (إلا في النادر وهو لا حكم له).. ولعل من أبلغ الدلالات على نوعية السلطة الجديدة في مصر؛ بالإضافة لما أشرنا إليه بالأمس؛ الهدية أو الدعم الذي قدمته دولة الإمارات للعملية الانتخابية الجارية هذه الأيام: مجموعة من المصفحات! وهو الدعم نفسه الذي تم تقديمه لعملية الانقلاب العسكري على السلطة المدنية في ليبيا خلال الفترة الماضية! التعريف العربي.. للديمقراطية! الديمقراطية ليست كلاماً ومحاضرات وندوات ومؤتمرات، والذي حدث في مصر – مدعوماً ومؤيداً بقوى أخرى في الوطن العربي- كشف أن أكثر الفئات حاجة للثقافة الديمقراطية هم منظّروها من دعاة الدولة المدنية العلمانية الليبرالية الحداثية وليس عامة الناس! فهذه الفئات التي طالما دندنت عن ثقافة الديمقراطية، وسلوكيات الديمقراطية، وآداب الديمقراطية.. وضرورة تضمينها في المناهج التعليمية، والخطاب الديني، وفي خطب الجمعة، والعيدين والموالد الشعبية، وتربية الأجيال من الصغر عليها؛ هؤلاء هم أنفسهم الذين بدوا وقت الأزمة أقل ديمقراطية من مستوى: طلاب محو الأمية اليمنيين في اللغة الصينية! وبدا أنهم ينافسون رموز الأنظمة التي أطاحت بها ثورات الربيع العربي في فهمهم لمعنى الديمقراطية: أن يكونوا هم حصرياً في السلطة فإذا راحت عليهم السلطة صار للديمقراطية معانٍ أخرى يبتكرونها وفقاً للمناسبة؛ كما حدث في مناسبات عديدة! وعلى سبيل المثال؛ وفي الانتخابات الرئاسية المصرية السابقة تحول تراجع الإخوان عن قراراهم بعدم تقديم مرشح؛ لأسباب مستجدة أوضحوها للرأي العام؛ إلى كارثة قومية وخيانة دينية ترتب عليها حملات إعلامية من النوع القذر الذي تجيده وسائل الإعلام المصرية! وبدا وكأن قراري الامتناع والعدول من المسائل المرتبطة بأصول العقائد لا بالمصالح والمفاسد المتغيرة، أو كأنه يتعارض مع أصول الديمقراطية ومعاييرها والعمل السياسي ومقتضياته! لكن وعلى سنة "لا تشمت بأخيك فيعافيه الله ويبتليك" وقع المرشحان المشاركان في الانتخابات الراهنة بدورهما في الحفرة نفسها؛ فمرشح العسكر عبد الفتاح السيسي ومعه القادة الكبار ظلوا في بداية الانقلاب العسكري يؤكدون ويحلفون الأيمان أن ليس لهم مطمع في السلطة، ولا يريدون أن يحكموا.. والمرشح الناصري الكومبارس بدوره أعلن أنه لن يترشح إن ترشح سيادة (!) الفريق أول عبد الفتاح السيسي! وتراجع الرجلان عن وعديهما قبل أن تجف دماء المصريين الذين سفك الانقلاب العسكري دماءهم تحت أضواء كاميرات التصوير! وكما هو ثابت الآن فإن هذين القرارين لم يلقيا لو نسبة بسيطة من الهجمات والقدح الذي لاقاه قرار الإخوان، وللتذكير فقط فقد ظهر الرجل الثاني في الانقلاب في فيديو مصور وهو يؤكد أن ثورتهم تصير انقلاباً يوم يحصل واحد منهم على علاوة أو يترشح قائدهم للرئاسة! ومن الابتكارات الغريبة في معنى الديمقراطية ما حصل بعد الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية؛ عندما انتفض مؤيدو المرشح الناصري المهزوم الذي حل ثالثاً؛ وطالبوا المرشح الإسلامي (د. محمد مرسي الذي حصد المركز الأول) بالتنازل عن حقه في دخول الجولة الثانية لصالح المرشح الناصري! وهددوا وتوعدوا.. وانخرط معظمهم بعد ذلك في حملة مرشح الفلول أحمد شفيق دون ذرة حياء! الديمقراطية عمل.. فني! وكانت الخاتمة في ابتكار معانٍ جديدة للديمقراطية هو ما حدث بعد فوز المرشح الإسلامي؛ فقد أصروا على أن ليس من حقه أن يستعين بأعضاء حزبه في إدارة الدولة بدءاً من رئاسة الوزراء ونوابه ومساعدييه! ومع أن مرسي تجاوب إلى حد كبير مع تلك المطالب إلا أن لك لم يشفع له عندهم، وتحول كل قرار بتعيين واحد من الإخوان إلى أزمة سياسية ترافقها عواصف إعلامية عن أخونة الدولة والإقصاء والتهميش.. إلخ الأوصاف التي لا تعرفها ديمقراطية ولا ديكتاتورية! وبعد مائة يوم من مزاولته لمهام الرئاسة ظهر معنى جديد للديمقراطية يقضي بضرورة إجراء انتخابات رئاسية مبكرة طالما أن الرئيس فشل في تحقيق وعوده! وبناءً على هذا المعنى الديمقراطي المبتكر تحالفت قوى سياسية ودينية من مختلف المشارب مع العسكر وبمباركة خليجية للانقضاض على السلطة بانقلاب عسكري؛ كان هو الآخر ابتكاراً جديداً في عالم الانقلاب العسكرية؛ إذ قدموه على أنه ثورة شعبية لمدة ست ساعات شارك فيها 30 مليون مصري أفقدت الرئاسة شرعيتها الدستورية وصار تدخل الجيش أمراً مشروعاً! (الأحد الماضي نشرت صحيفة "المصريون" خبراً منقولاً عن أحد العاملين في السينما المصرية يقول فيه إن المخرج السينمائي خالد يوسف – يسمونه مخرج الدعارة!- الذي أشرف من خلال طائرة وفرها له الجيش المصري على تصوير اعتصامات 30 يونيو؛ أقر له بأن عدد الثلاثين مليون المشاركين ضد مرسي لم يكن دقيقاً، وأصر على أنه لم يزوّر المناظر لكنه استخدم تقنيات سينمائية لإظهار الحشود بشكل مبالغ فيه.. أو كما جاء في الخبر نقلاً عن المصدر الصديق: "إن هناك مبالغات في الأعداد التي ظهرت في المشاهد المصورة، وأنه كانت هناك رغبة سياسية قوية في إظهار الحشود التي تحتج على حكم محمد مرسي بشكل مضخم لأن قلقنا - حسب قوله- كان كبيراً من فشل يوم الاحتجاج، وأن نتائج فشله ستكون خطيرة على كل قوى الثورة وعلى الدولة وأجهزتها، ورفض خالد يوسف - وفق المصدر نفسه- اعتبار تلك الأفلام مزورة، مشيرا إلى أن ما استخدمه من أدوات فنية لإظهار الحشود بشكل مبالغ فيه هو عمل فني مشروع (!) واعترف يوسف بأن الحديث عن خروج ثلاثين مليون مواطن في ذلك اليوم كان مبالغة صعب استيعابها وصعب إقناع الناس، خاصة خارج مصر، بصحتها!).
حكام العرب مرجئة الديمقراطية! خلاصة الكلام أن الديمقراطية لم تعد ثقافة كما كان يقال للناس تبريراً لأي انتكاسة لها، فهي صارت عملاً فنياً لا بأس فيه من استخدام أي وسيلة لتزييف وعي الجمهور! لكن حقائق للتاريخ المعاصر تؤكد أن تكريس الديمقراطية هي إرادة النخبة الحاكمة وقناعتها الصادقة بها مهما تكن نتائج صندوق الانتخابات سلبية على هذا الحزب أو ذلك الزعيم.. وأن الأمر ليس ثقافة ولا تجربة تاريخية؛ فمصر مثلاً عرفت أشكالاً من الديمقراطية قبل نصف قرن على الأقل من الهند وإسرائيل ودول كثيرة أخرى، وهي الدول التي تنعم الآن بممارسة ديمقراطية حقيقية جسمت فيها الصراع الدموي بالأساليب السلمية.. ولعل أنموذج باكستانوالهند هو خير مثال على خرافة الثقافة الديمقراطية اللازمة للنجاح.. فالساسة الهنود والباكستانيون كانوا ثمرة لمجتمع واحد، وثقافة عامة واحدة، وخلفيات علمانية واحدة، لكن في الهند توفرت الإرادة عند النخبة الحاكمة لتكريس نظام ديمقراطي لحكم الهند؛ بينما تغلب العسكر وأزلامهم من النخبة المثقفة في الباكستان وأقاموا نظاماً سياسياً غير سليم حكم العسكر فيه مؤيدين بالنخبة معظم العهود، وكانت النتيجة هذا الذي نراه من الفروق بين البلدين في الاستقرار السياسي والتقدم الصناعي والعلمي! ومثل الهندوباكستان مصر وإسرائيل؛ فالبلدان تأسس نظامهما السياسي القائم حتى الآن في وقت متقارب؛ لكن الفرق أن النخبة الصهيونية اتخذت من النظام الديمقراطي السليم طريقاً لها للحكم، وكانت المفارقة أن أول انتخابات برلمانية جرت عندهم عام 1949 أي في نفس العام الذي انتهت فيها الحرب الأولى بينهم وبين العرب، ولم يحاول أحد من النخبة أن يتعلل بالأخطار الداخلية والخارجية لتأجيل الانتخابات إلى أجل غير مسمى، وعندما يأتي هذا الأجل يتم تزويرها كما حدث مصرياً! ومن المفيد التذكير أيضاً أن انتخابات الكنيست الصهيوني تأجلت مرة بسبب اندلاع حرب أكتوبر 1973؛ لكن بعد شهور قليلة من نهاية الحرب؛ أو على الأدق توقف إطلاق النيران؛ تم إجراء الانتخابات، وقبلها ظهر تقرير لجنة أجرانات الشهير باسم "التقصير" الذي تقصى حقائق ما جرى في حرب أكتوبر من تقصير وأخطاء أدت إلى انتكاسات عسكرية كبيرة فيها، وهذا التقرير هو الذي أدان عددا من أبرز المسؤولين الإسرائيليين وفي مقدمتهم: رئيسة الوزراء جولدا مائير التي تركت العمل العام نهائياً، وموشى ديان وزير الدفاع الذي استقال من الجيش! وفي مصر صار الانتصار المحدود الذي تحقق بعبور القناة وسيلة لظهور فرعون جديد، وتحول المؤسسة العسكرية إلى مقدس لا يجوز مسه! (عقب هزيمة الجيوش العربية في حرب 1967لم يحدث تغيير حقيقي في تلك الأنظمة إلا في إطار الصراع الدموي على السلطة؛ ففي سوريا قاد وزير الدفاع المهزوم حافظ الأسد انقلاباً جعله رئيساً للجمهورية حتى الموت! وفي مصر تم إبعاد المشير عبد الحكيم عامر من قيادة الجيش على ان يبقى نائباً لرئيس الجمهورية (!) ولكنه كان بواقاً وأراد أن يعود إلى منصبه قائداً لجيش أسوة برئيس الجمهورية جمال عبد الناصر.. وتطورت المشكلة وانتهت بواقعة انتحاره المحاطة بأسئلة كثيرة.. لكن المهم أنه لو كان قبل منصب نائب الرئيس لربما لم يحاكم ولم تكن نهايته انتحاراً أو قتلاً كما يقول أهله، وربما ظل على نفس القداسة السياسية التي كانت له!).
والثابت تاريخياً أن ذلك الالتزام بالديمقراطية عند النخبة الصهيونية اليهودية لم يكن ناتجاً عن ثقافة ديمقراطية؛ فالقوم لم يكن لديهم أي شيء من ذلك فكل رموز النخبة الذين أسسوا إسرائيل وحكموها جاءوا من .. روسيا القيصرية ثم الشيوعية أو من بلدان أوروبا الشرقية الخالية من ممارسة تاريخية في الديمقراطية! والثابت أنهم كانوا متأثرين جداً بالأفكار الاشتراكية وتطبيقاتها الاقتصادية (المزارع الجماعية مثلاً)، ولعل هذا يفسر حقيقة أن الكتلة الشيوعية كانت مصدر السلاح والمقاتلين في حرب 1948! وهذا هو الفرق بين إيمان حكام العرب ونخبهم بالديمقراطية مقارنة بغيرهم؛ فإيمان حكام العرب ونخبهم كما اتضح مؤخراً هو على طريقة إيمان المرجئة في التاريخ الإسلامي، وهم فرقة تبلور فكرها في الأخير في أن الإيمان محله القلب وإن خالفته الجوارح فهو منفصل عن العمل، ولا يضر معه معصية ولا رذيلة، ولا يستلزم قولاً أو فعلاً لتأكيده بما في ذلك الصلاة والفضائل!