(1) لا شيء يرفع الرأس في أزمنة الإنحطاط العربي إلا المقاومة الفلسطينية بكافة فصائلها..المقاومة التي تتحدى وتذود وتصمد كما تنبثق كطائر الفينيق من رمادها دائماً..المقاومة التي تحمل في ذمتها تاريخ شعب ضحية يرفض عجرفة الجلاد المحتل وصلفه وهمجيته..المقاومة التي تتعالى على الخصومات وتتجاوز المكائد السياسية بإرادة الوحدة الوطنية كبوابة حقيقية للخلاص.
المقاومة التي ليس لها سوى أن تستأنف الأمل كل لحظة، ذلك قدرها” السيزيفي” الأسطوري، المقاومة التي تستبسل وتستعيد عنفوانية أحلام ياسر عرفات، وجورج حبش، وأبو علي مصطفى، وفتحي الشقاقي، وأحمد ياسين، وكمال عدوان، وأبو جهاد، وغسان كنفاني، ووديع حداد، وعبدالعزيز الرنتيسي، الخ ..
رغم كل التقسيم والاستيطان والضغوط الرهيبة كل لحظة في ظل دناءة الضمير الإنساني يأنف الشعب الفلسطيني في جوهره عن الخضوع، كما يأبى في لحظات الشدة والانصهار الجماعي بروح قضيته العادلة عدم الظهور موحداً في الروح والوجدان والهم الجامع والمصير المشترك، بحسب ما يراد له.
والحاصل كذلك أن المقاومة الفلسطينية توحدنا جميعاً كهوية على كل المستويات، غير أن العار كل العار للشيعة والسنة العرب الذين يتقاتلون فيما بينهم، فضلاً عن مؤججي الصراعات اللا وطنية العربية بين اليمين واليسار والوسط، الخ..
لذلك لابد أن تخجلنا عروق المقاومين الفادين لتراب فلسطين.. بينما ليس لنا ما نتشرف به في ظل انحطاطنا المكدس سوى “شعب الجبارين” كما كان يسميه رئيسه الراحل، والذي يفضح كل أنظمة الخداعات والخيانات المتواطئة مع آلة القتل الضخمة والهستيرية للكيان الصهيوني.
الشعب الذي ينفخ الروح في كل الشعوب المحترمة، كما يضع الضمير العالمي في المحك، وبالرغم من كل معاناته وتضحياته الفادحة والمهيبة أبداً لا ينكسر.
(2) كعادتها تتعذب.. ولقد أصبح لكل بلد عربي غزته الخاصة.. تلك أقدار شنيعة تصاغ لهذه المنطقة المنكوبة على يد الاستعمارين الخارجي والداخلي معاً.
ذات قصف رهيب على غزة حدثني صديقي الغزاوي محمود ماضي، قال: ستنتهي الحرب بعد قليل، وسنعود إلى ذات السلوكيات الصباحية الاعتيادية لنكتشف أن الشوارع ما تزال على حالها، مع اختفاء لبعض المنازل من المشهد، وسنرى الأشجار التي اعتدنا خربشة أسمائنا على جذوعها، وسنفتقد بعض الأصدقاء الذين ستعلق صورهم على امتداد البصر. ثم سنمضي إلى حتفنا وسيمضون هم إلى حكاياتهم الجديدة.
كان صديقي بكبرياء حزنه النبيل المعتاد يتحدث متهكماً وممتلئاً من الداخل رغم أهواله وفقداناته الرهيبة، بينما كنت أعرف أن غزة تضع العالم كله في المحك، ولا عالم ولا محك للأسف.
الأنكأ أن العرب لا يمتلكون سوى الحزن على غزة، الحزن المتشنج السريع والضجيجي، الحزن الذي يصير مع الأيام حزناً خاوياً ادعائياً لئيماً ،يتواشج تاريخياً بمحطات من الخيانات والتفريط والتهريج، وها نحن نرى الاشمئزاز المتبادل بين السنة والشيعة مثلاً أكبر من الاشمئزاز المتبادل بينهم والكيان الصهيوني الغاصب. والمعنى أن سنة المسلمين وشيعتهم مجرد برابرة في استغلال المأساة الفلسطينية لا يفرقون كثيراً عن بربرية الكيان الصهيوني نفسه.
إن هموم الوجود كله يتكثف في غزة وغزة تحرسنا جميعاً، أكثر حنكة من الأمل وأقل تطرفاً من الأساطير.. كل هذه الحيرة المهووسة بالحياة في عز الموت ..كل إنسانيتنا العقيمة جداً، وكل ذلك التوازن الحلمي الأصعب، وأفقنا الشخصي الجماعي المحاصر والمثخن باحتمالات الخيبات والفجائع ليس إلا.
إلهي أنقذ أصدقائي في غزة فقط.. وليس من حيلة أخرى للفلسطيني العظيم الذي «يمد يده للمنقذ فتعود إليه بلا أصابع» سوى أن يعطينا دائماً الدرس الأكثر أهمية في الحياة، غير أننا كشعوب وكدول بلا أدنى نباهة لنفهم ونستوعب كما ينبغي.