الساعة الواحدة بعد منتصف ليل الأربعاء الماضي, كنت أسكب القهوة في الفنجان الصغير مستمتعاً بلونها الأسود الداكن, -كانت آخر مرة شربت فيها القهوة قبل نحو شهر في بيروت, متذكراً صديقتي التي يمتعها شرب القهوة مطلع الصباح وأول الليل , وتتفنن بتحضيرها وإفراغها في الفنجان, وتفرح كثيراً حين تشكل رغوة القهوة شكل قلب, وغالباً ما تسارع بالتقاط صورة للفنجان, وارسالها لي او نشرها في صفحتها على "الفيس بوك".. وبينما أنا مستمتع برائحة القهوة, وغارق بذكريات قديمة جديدة, فاجأني صوت أمي التي ضبطتني متلبساً في المطبخ: - "خلصت الغاز يا ابني ما بيصحيك هذا الوقت نام بدري علشان تصلي فجر أو أنت من عباد رمضان؟! نفسي اصحى يوم الاقيك بتصلي أو بتستغفر الله أو بتقرأ قرآن, يومك نوم وليلك سهر, اليوم الحكومة أقرت جرعة ويعلم الله كم بيرتفع سعر الغاز."
كنت قد حملت الفنجان لأرتشف الرشفة الأولى حيث القهوة ما زالت ساخنة, ورائحتها قوية, توقفت وتجمدت يدي.. وأمي الغاضبة تقف أمامي, قلت : - هذا الأمر ليس بجديد, نحن نعرف أن قرار رفع أسعار المشتقات النفطية كان سيصدر عاجلاً أم آجلاً, بعد أن استحال التوصل إلى حل لتغطية عجز الموازنة العامة. - قاطعتني أمي : "هذه هي كذبتهم التي سئمنا سماعها.. لا أحد يشعر بمعاناة المواطن, مصالحه غير موجودة في خططهم وقراراتهم, هل تصدق أن الدولة لا تستطيع إيجاد حلول بديلة للجرعة؟! لماذا يتحمل الشعب فساد حكومته؟" - ليفعلوا ما يريدون, يا أمي, قد يكون هذا هو الحل الوحيد والأخير أمامهم, بعد أن تكبدت الخزينة العامة خسائر هائلة نتيجة سلسلة من الأزمات والصراعات التي افتعلها أعداء الوطن, وعالجها الإهمال والاستخفاف والارتجال والاجتهاد الفردي المفرغ من أي منهجية وقواعد علمية, وكل سياسي منهمك في تحقيق مآربه وغاياته وأنانيته ومصالحه, ومصالحهم بالضرورة تتقاطع مع مصالح الشعب.. ثم ان أغلب المشتقات النفطية المدعومة من جيوب الجياع تباع لمهربي النفط, والتجار المتسببين في تجويع وإفقار هذا الشعب..
هل تعرفين أن أسعار المواد الغذائية المصنعة في لبنان ذات الجودة العالية أرخص بكثير من سعر المواد الغذائية اليمنية, رغم رداءتها, في حين أن القوة الشرائية في اليمن أكبر منها في لبنان, ويتقاضى العامل في لبنان أضعاف ما يستلمه العامل اليمني في القطاع الخاص, بالرغم من أن المشتقات النفطية تباع في لبنان بالسعر العالمي مضافاً إليه الضريبة.. جشع التجار وأصحاب رؤوس الأموال في اليمن, ناتج عن ضعف وتواطؤ الحكومة اليمنية, معهم, فلا وجود لقانون في اليمن يحمي حقوق العامل في القطاع الخاص, ولا رقابة على أسعار وجودة وسلامة المنتوجات المحلية.
نحن بحاجة إلى دولة تكسر هذا الاحتكار, وتفتح مجال الاستثمار, وتعالج هذا الفساد الكبير وهذه العشوائية الكارثية التي تعصف بالوطن , وهذا الحريق الهائل الذي نشب في كل مؤسسات الدولة. العلاج, يبدأ من الاستفادة من اليقظة التي أحدثتها الثورة في الضمائر والقلوب ومن العزم الذي ولدته ظروف المحنة في النفوس والصدور.
يمكن للشعب اليمني أن يرضى ويكتفي بتلك الحلول الجزئية التي اعتمدتها الحكومة, لتغطية العجز الهائل في الموازنة -بعد تعذر الوصول الى حلول جذرية لما تعانيه اليمن من أزمات شاملة, ولكن من المهم أن يعرف أن تلك الحلول يمكنها أن تصمد وتبقى فلا يستنزفها ويستغلها الهوامير الغلاظ ويستنزفون معها وجودنا كشعب, وهو الخطر الأكبر, فحين يسقط الشعب في حالة من الاستسلام لأزمة وجودهم, يسقط الوطن.
وعلى الحكومة التي أقرت رفع الدعم عن المشتقات النفطية, أن ترفع شيئا من معاناة الشعب وتغير من واقع الحرمان الذي يعيشه المواطن البسيط عبر تنفيذ المشاريع الانمائية.. من خلال دعم وتشجع القطاع الزراعي, بحمايته وبتأمين القروض الميسرة للمزارعين, من أجل تطوير انتاجه وتأمين تصديره وتصريفه. كما يجب على الحكومة أن تعمل على دعم سعر القمح كما تدعمه كل حكومات الارض, حتى لا يسقط الشعب في مأساة الجوع.. وتأمين الدواء بسعر مدعوم, حتى لا تبقى صحة الناس تحت رحمة مهربي الصحة والدواء.. والعمل على توفير وسائل مواصلات عامة برسوم رمزية, يستفيد منها عامة الشعب.
وعليها دائماً أن تبحث عن المزيد من الفرص الاستثمارية وتطويرها من أجل تحقيق زيادة في الإيرادات العامة.. عليها أيضاً تعزيز أدوات العمل الرقابي على القطاعات الإيرادية, وكشف عصابات الفساد في تلك المؤسسات واحالتهم العاجلة إلى القضاء, وترشيد النفقات العامة, وإيقاف هدر المال العام في أمور غير ضرورية.. قبل أن أنهي حديثي كانت أمي قد اتجهت إلى البوتجاز غير آبهة, لتغلق مفتاح اسطوانة الغاز, -فقد نسيت عين البوتجاز مشتعلة- ثم نظرت إلي بغضب وقالت بصوت عال : - روح نام, وبطل هدر للغاز والكهرباء واحتفظ بنصائحك لنفسك.. أصلح نفسك أولاً, (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).