فشل الغبار المثار والجلبة الصاخبة عن حجب صورة الحقيقة وصوتها. محاولة تجييش عواطف البسطاء بالمطالب المشروعة هي الأخرى لم تؤتِ أكلها. التاريخ بشواهده العصية على التزييف المخاتل يأبى الصمت والتغييب. في سبتمبر الثاني والخمسين تعود أحداث 1967 بالوجوه ذاتها دون أقنعة أو مساحيق تجميل. تتكدس رواسب العهود البائدة بما فيها عهد المخلوع صالح بالطبع، كنفايات بشرية أو كوباء حضاري. محاولة بائسة لتسويق بضاعة انتهت صلاحيتها منذ أمد ولم تعد صالحة للاستهلاك حتى مع تجديد تاريخ صلاحيتها. بجهل يبعث على الشفقة، يعتقد هؤلاء أن إخفاقات اثنين وخمسين عاماً من عمر ثورة سبتمبر، وتعثر ثورة 11 فبراير عن تحقيق آمالنا، كافياً للعودة لزمن العكفي وزيت الخروع والإمامة والارتماء في شرك نظام عائلي فاسد.
كحاطب ليل يحاول عبدالملك الحوثي التمترس بأوجاعنا وامتطاء أحلامنا للثأر للإمامة، الفتى الذي وجد نفسه (بمقتضى نظام عائلته الوراثي) يقود جماعة غوغائية بلا ملامح واضحة وبلا مشروع سياسي، يتقمص دور المناضل الثوري على غرار المهاتما غاندي ونلسون مانديلا بعقلية صبيانية بلهاء مفتقراً لأبسط صفات الزعيم الثوري، الأخلاق والقضية والقبول الشعبي على وجه التحديد. وكما يقول المثل العربي "وافق شن طبقة" وجد الفتى الطائش في أنقاض نظام صالح السند المادي والعسكري ورغبة الانتقام السوداء.
مرور الدولة بأسوأ مراحل وهنها تراءت لهم كفرصة ذهبية لا تعوّض، فالطريق للاستيلاء على السلطة بالسطو اللصوصي وبقوة السلاح سالك، ولا مجال لإهدار الفرصة. يجدر القول هنا أن معزوفة إسقاط الجرعة وتغيير الحكومة وتنفيذ مخرجات الحوار العاطفية استهلكت لأبعد مدى، ولم تعد تُطرب أحداً أو تصلح كطعم استقطاب أو قناع مطلبي لستر النوايا السافرة. نحن نعيش ثورة مضادة لكل ما هو إنساني وحضاري وعقلاني وضد رغبتنا في الحياة الحرة الكريمة والمواطنة المتساوية في ظل دولة مدنية ديمقراطية وقانون يصون حقوق الجميع، التي من أجلها خضنا ثلاث ثورات وقدمنا تضحيات جساماً.
بلوغ القلق ذروتة وتحول المخاوف الى كوابيس من تمكن الثورة المضادة من تحقيق مآربها يطغى على مشاعر الغالبية في الوطن. القلق والخوف بحد ذاتة مصدر قوة إضافية، ويدفعني للتفاؤل الواثق من كون ما يجري الآن مجرد ثمن مستحق لأخطاء سابقة. يحفر رؤوس الثورة المضادة قبر مشروعهم المقيت بأيديهم، برفضهم احترام خيارات الشعب ورفضهم وضع مطالبهم (رغم شططها وتدللهم الصبياني) على طاولات التفاوض.
وبما أن صبح الحقيقة قد أسفر وبدت المرامي الخفية، أعتقد الآن أن سيف السلام الذي لم يلقَ التقدير اللائق، لم يعد مجدياً مع جماعة إرهابية لا تجيد غير لغة العنف وحديث البندقية، وهذا ليس تحريضاً على العنف والدعوة للاقتتال، كما قد يفهم البعض، بل دعوة للتخندق بالوعي المنيع والتمترس بالاصطفاف المتلاحم، وإزاحة النفايات المتكدسة بوقاحة عن طريق مسيرتنا الحضارية.