لماذا علينا أن نحارب بعضنا بعضا لنتفاوض بعد أن يكون قد حل الدمار كي نقيم السلام ونقبل بالحوار في الآخر؟ لماذا لا نتحاور ابتداء لنتجنب ويلات الحرب التي ستحل إن لم نتحاور ؟. مع انطلاق آخر فرصة تاريخية للحوار اليمني اليمني بين المكونات في موفمبيك والمحددة بأسبوعين , ونحن نقبض بأكفنا على قلوبنا وجلا من أن تؤول النتائج الأخيرة إلى ما آلت إليه نتائج الحوارات السابقة من فشل وخاصة وقد تم محاولات إفشال نتائج الحوار الوطني القادرة على إغنائنا عن كل حوار إذا ما اقتنعنا بها حتى وإن كان البعض يرى فيها إجحافا لكن مع تقديم الوطن على الذات وحقنا للدماء التي قد تسال حال عدم الاتفاق في الفترة المحددة .
النتائج التدميرية للحروب تظهر جلية في العراق وسوريا كأمثلة لدولتين تقدمتا في مناحي الحياة حتى ارتقتا إلى مصاف الدول الأولى في البنى واليوم بعد الحروب سويت منجزات الدولتين بالقاع وعادتا القهقرى خمسون عاما وكل ذلك يعود لإصرار كل الأطراف السياسية على رفض القبول بالآخر كمكون وطني أو الاعتراف به , ونحن في اليمن ليس لدينا منجزات تذكر في البني التحتية مقارنة بالعراق وسوريا ولكن لدينا أطراف مختلفة حد التباين قد تذهب بوطننا إلى ما ذهب إليه العراق وسوريا من خراب . الأحزاب والتنظيمات والجماعات السياسية أو العسكرية في اليمن تنطلق بفكرها ورؤاها أو حوارها كل مع الآخر من منطلق " أنا خير منه " وعليه فإن كل منها يرى في نفسه الحق المطلق وغيره الشر المحض والخراب والدمار والكفر البواح.
الجماعات الإسلامية السنية على اختلاف رؤاها ترى أنها ذات الحق الديني حتى تتفاضل فيما بينها وما دونها باطل والجماعات الشيعية ترى في نفسها الحقيقة النهائية وتتمايز فيما بينها أيضا وترى غيرها باطل , فيما الليبرالية واليسارية والقومية ترى في نفسها التقدمية والمعاصرة وما عداها رجعي كهنوتي متخلف , ومن منطلق الخيرية التي يراها كل طرف لنفسه يسعى كل طرف لتسويغ إبادة أو إلغاء أو إنهاء أو إقصاء أو تهميش الآخر ومنها أيضا يعبئ الأجيال والأتباع ويهيئ المناخات للاحتراب النفسي والاجتماعي ومن ثم السياسي وترتقي التعبئة لتصل أعلى مراحل الكراهية بالتعبئة العسكرية , إذ ليس ثمة منحة أو فسحة للتعايش , وعلى ضوء ما سبق فإن النتيجة الطبيعية هي العدائية والنفرة والحرب المدمرة وفي حال الصحوان والإفاقة من الغشاوة التي تعيشها الأطراف المختلفة تلجأ إلى الحوار للوصول إلى حل يرضي الجميع هذا إن صحوا لكن بعد ماذا ؟ بعد أن تكون المدن صارت أطلالا والبنى محاقا وجزء من السكان قتلى وثان جرحى ومعاقين وثالث مشرد ورابع منهك وقد تراجع مستوى الاقتصاد إلى ما قبل الصفر وكذلك مستوى الخدمات الصحية والتعليمية ودمرت البنى التحتية وأصبحت الحياة عدمية بلا قيمة , حالة ما بعد الاحتراب هذه كل فرقاء السياسة والتوجهات الفكرية يقرؤونها جيدا بل ويشاهدونها من خلال السبب والنتيجة الحتمية ويدركون العواقب الوخيمة لكنهم في حال الشطح لا يأبهون لما قد يحصل والعقل المدرك للمآلات إما يقبل بالتضحية أو يسقط في وحل العنف مواجهة للشطح الآخر اللامبالي , وهنا يرد سؤال مركزي يحتاج إلى إجابة فرقاء الفكر والسياسة وهو هل من اللازم عليكم أن تصحوا بعد الحرب والدمار لتقبلوا بالتصالح ؟ لماذا لا تغشاكم حالة الصحوان وتقدمون اتفاق ما بعد الحرب إلى ما قبلها لتجنبوا أنفسكم وأوطانكم وشعوبكم عبثها ؟.
الحوار هو الوسيلة المثلى لتجنب الدمار والصراع وافتراق البشر والأوطان والقبول بالأخر مهمة عظيمة تعني السلم والتعايش والسلم والتعايش يعني الاستقرار والاستقرار يعني الازدهار والتقدم , فالأمم المتعايشة حطت أقدامها على سطح القمر وفي المريخ , فيما الأمم المتناحرة لأسباب عدم القبول بالآخر والتعايش تعيش انحطاطا ودمار ( العراق وسوريا )
ونخشى أن تلحق اليمن بهما إذا ما غاب العقلاء وغاب الوفاق . من حقنا استلهام التجارب من الآخرين , أوروبا , وأمريكا , والهند من باب " الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها " فرغم التباين الأثني والثقافي والفكري واللغوي إلا أن هذه الأمم متعايشة تهنأ بالاستقرار والسبب القبول بالآخر ووجود أنظمة وقوانين تساوي بين الجميع وتمنحهم حقهم في العيش والاعتقاد والتفكير والرأي والحرية . لماذا يمنع الفرقاء أنفسهم القبول بالآخر والتعايش معه وحواره أليس كبشر من حقه أن يعيش ويعتنق ما يشاء بمقتضى تكريم الله له " ولقد كرمنا بني آدم " وآدم هنا لفظ عموم يدخل في سياقه المؤمن والكافر والإنسان المكرم من حقه الحفاظ على نفسه وعرضه وماله ودينه ودمه وبمقتضى الحرية الدينية الإلهية الممنوحة في الحق في الاعتناق والاختيار " لكم دينكم ولي دين " و " وهديناه النجدين " , إذا ليس من حق كل فريق محاكمة أو محاسبة الآخر على معتقده أو معاقبته أو تلفيق التهم وكيلها له فالحساب والعقاب مخصوص به تعالى في الآخرة " ليس عليك من حسابهم من شيء " , وهداية الآخرين ليست فرضا على طرف لإكراه طرف آخر وإنما هي أشبه بسلعة سوق خاضعة للعرض والطلب فقط على صاحب الفكرة عرضها وليس فرضها " ليس عليك هداهم ".
إبليس في الصورة الذهنية للعالم البشري يمثل الرمز المطلق للشر وينعت برأس الفتنة ومسعر الحروب ولو تمثل عيانا لخسف به الجمع الإنساني الأرض وأورده المهالك ومع كونه كذلك إلا أن الله جل في علاه عندما عصاه إبليس بالسجود لآدم لم يلجأ لعقابه وإيراده جهنم وهو القادر إلا أنه أعطاه فرصة للحوار والدفاع عن نفسه وسماع رؤيته أو سبب عصيان أمره وهو العالم بذلك " قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه " وبعد حوار مستفيض بين رب العزة وإبليس يطلب الأخير من الله تأخير أجله إلى يوم الفناء والبعث " قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون " فاستجاب الله لطلبه " قال إنك من المنظرين " ولنا في ذات الله القدوة المثلى أن نتمثل به وننقاد لأمره فهو أول من أعطى حق الحوار لأشر المخلوقات لندرك أهمية الحوار ويكون لنا درسا نتخلق بخلاقه , والفرقاء على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم الفكرية والعقدية يجمعون حول شيئين اثنين دونما اختلاف وهما حب الله وكراهية إبليس , فإذا كانوا يحبون الله حقا فعليهم الانقياد له وإتباع منهجه في اللجوء للحوار لا للعقاب فالله قدم لنا درسا في الحوار غاية في الأهمية ومع إبليس ألد الأعداء.
عقدة الأنا الخيرية الإبليسية " أنا خير منه " قد تراود فكرتها كل فريق ومنها تنطلق آراؤه بالبقاء وحيدا متفردا بالحق الذي يراه لنفسه فيما في المقابل يجب إزالة الباطل الذي يراه في إزالة الآخرين من على الخارطة الأرضية وهذه كفكرة تتناقض مع التنوع الذي أراده الله , فالله خلق البشر وأرسل رسله لهدايتهم لا لإكراههم ولهذا انحصرت مهمتهم في تبيين طريق الحق وطريق الباطل " وهديناه النجدين " ومنحهم حرية الاعتقاد " لكم دينكم ولي دين " ولم يلزمهم بدينه الحق إلزاما لأنه لو أكرههم إكراها على إتباعه يصبح بداهة لا داعي لوجود النار لكن الحرية الممنوحة للإنسان في الاختيار بين أحد الطريقين تدفع لضرورة وجود فريقين ولهذا كان وجود الجنة والنار كضرورة ونهاية محتمة لاختيار أحد الطريقين ولهذا كانت حكمة الله العظيمة في منح حرية الاعتقاد والتدين للإنسان " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي " فإذا كان الله في علاه لم يكره أحدا على إتباع دينه رغم أنه الحق ومنح الإنسان حرية الاختيار وكفل حقه في العيش وحرية التدين فكيف بمن يرون في أنفسهم حقا مطلقا من أي فريق من الفرقاء يسعون للإكراه أو الإبادة والإلغاء والإقصاء والتهميش .
بعض الفرقاء قد يتقدم إلى الحوار وليس أمامه سوى خيار الغلبة وكأنه في معركة مصير لا تحتمل سوى النصر أو الموت أو أمام طريقين لا ثالث لهما ليس فيهما للهزيمة أو التراجع أو القبول مجال , تاريخيا وفي إطار الجسد الواحد الوطن هو الخسران ليس هناك منتصر أو مهزوم , وفكرة الانتصار للذات والتخلص من الآخر فكرا أو تعصبا لم تجد فما يزال للأفكار المهضومة في الواقع أشياعها ومرتادوها رغم الحروب الشرسة التي تلقتها , ولنا في الفكر الاسماعيلي الباطني ( البهرة ) كمثال حي خير حكمة وعضة فهذا الفكر قياسا بعدد معتنقيه وقلتهم في الأزمان الغابرة أو اليوم قد واجه محاولات عديدة لطمس هويته ووجوده إلا أنه بقى صامدا رغم الشدائد , ففي القرن الرابع الهجري تعرض لمحاولات إبادة شاملة على يد الدولة السنية اليعفرية في عقر داره وعاصمة ملكه مذيخرة العدين التي حوصرت لستة أشهر ودمرت قلاعها وأسوارها وقصورها وسويت كمدينة عامرة بالأرض تدميرا , وسحق جيش الإسماعيلية وقتل ملكهم الفأفأة بن على ابن الفضل وقادتهم وعلماؤهم إلا أنه مع ذلك بقى فكرهم ينساب في عقول مؤمنيهم يتناقلونه بينهم , وفي عصر الدويلات الزيدية قاد الإمام عبد الله بن حمزة معارك عديدة بجيوش عتيدة لإزالتهم من على الأرض في همدان وحراز كما قيدت ضدهم في أزمنة كثيرة الجيوش إلا أن كل ذلك لم يثنهم عن مبادئهم وبقوا صامدين تزداد فكرتهم صلابة في مواجهة المحن ولم تتراجع قيد أنملة وإلى اليوم تنمو كنبتة تلد بذور أسباب بقائها , هذا مثال لأمة قليلة مستضعفة مستهجنة محاطة بعدو يتكون من أمتين عظيمتين هما السنة والزيدية فهل من المنطق والعقل أن تصل جماعة بالقوة لدرجة إزالة جماعة أخرى أو فكرها أو معتقدها , لا وألف لا , فإن ذلك من الصعوبة بمكان فقط ستنحصر الخسارة في الأنفس والأموال الممتلكات والعمران لكل الأطراف ويكون الوطن والشعب هو الخاسر الوحيد وبالتالي ليس أمام الأطراف سوى احترام وجود الآخر وتقبله وحواره واحترام رأيه والوصول معه لرأي مكين يعمل على إحياء المواطن والوطن ويسعد كل الأطراف ويخلد مواقفها .
خلاصة القول إذا كان الفرقاء يسعون في حوارهم لأجل الوطن فسوف يقدم كل طرف تنازل ونصل إلى نتيجة أما أن يسعون لأجل ذواتهم وفرض رأيهم فإن الوطن يسير إلى الهاوية وهم سواء جلسوا في موفمبيك أو الرياض أو طهران , ذلك أن النية الصادقة لم تتوفر . بإمكان الحوار أن يكون تاريخي وأن يقدم الفرقاء أنفسهم من خلاله للتاريخ كمنقذ ومخلص وبإمكانهم أيضا عكس ذلك تماما وعلى كل طرف ألا يلج إلى الحوار مثقلا بعقلية القاضي الجاهز لإصدار أحكامه وإنما بعقلية المصلح القادر على تلمس الأعذار للآخر وإعذاره وتقبله , نحن أمام فرصة تاريخية أخيرة لإنقاذ الشعب والوطن من الانتحار سيسأل عنها المتحاورون أمام الله إن لم يخلصوا ولن يرحمهم التاريخ .