لقد تأثر الأطفال بشكل طبيعي بجهود هيئة التوعية..على أن المأساة قد تتكرر - بشكل طبيعي أيضاً – إذا ما أهملت عواطفهم الوجدانية تلك، وانقطع نفس تخليق الحب للجميع بمواصلة غلق الدائرة على "أبناء الحظوة" فقط. هل علي أن أعترف الآن أن الجرعات الوطنية التي تنفذها الهيئة الوطنية للتوعية تؤتي ثمارها حقاً؟ ذلك على الرغم من التعقيدات التي تكتنفها، والصعوبات التي تحيط بها في مثل هذه المرحلة الحرجة التي تمر بها البلاد..! ناهيك عن النظر إلى الجهة والأشخاص الذين يقومون بالأمر، وخلفياتهم ومواقعهم والمصالح المفترضة التي تنطوي عليها العملية برمتها..!
ربما كان الأمر متعلقاً – بشكل شخصي - بفعل ما اعترض حياتي خلال الأسابيع القليلة الماضية فقط. فهاهي طفلتي (بنت السادسة)، أستطيع القول، ليس فقط أنها تشربت حباً قوياً ل"العَلَم" – رمز اليمن - من ساحات المدرسة وفصول الدراسة، بل باتت تنقل حبها وهوسها إلى أخيها الأصغر (ذو الأربعة أعوام ونصف). حتى بات كليهما، اليوم، وكلما مررنا بشوارع العاصمة على "عَلَم" وطننا الحبيب (الذي أصبح يرفرف في مساحات شاسعة، مغطياً العاصمة برمتها)، يؤشران إليه بإثارة ويهتفان: بابا علم اليمن..علم اليمن.
لقد أصاب الطفلة هوس جعلها تهيم برسمه في دفاترها وكتبها على خدها وخد أخيها بين الحين والآخر.
ونهاية الأسبوع قبل الماضي، حضرت عائلتنا الصغيرة احتفال تخرج زوجتي في جامعة صنعاء، وبعد القرآن الكريم، طلبت منا مقدمة الفعالية التفضل بالوقوف للنشيد الوطني. بكل خشوع وهيبة كان اللحن يصدح بكلمات الفضول وألحان أيوب طارش عبسي، وأصوات كورال شبابية قوية(مسَجَلة). حالما انتهى الموقف المهيب، صفقنا جميعاً، وعندما هممت بالجلوس، همست أبنتي في أذني: بابا لقد كنت أردد معهم..فقد حفظتها من المدرسة. ولاحقاً في الاحتفال ذاته، أثبتت لي قدرتها على الحفظ بتسميعه على أذني مباشرة.
لقد بات من السهل جداً –هذه الأيام- أن نلاحظ أن أطفال وشباب الجولات (ممن يطلبون أرزاقهم اليومية هناك بصعوبة كبيرة تحت حر الشمس) أصبحوا سعداء لامتلاكهم بضاعة رائجة جداً: أعلام، وميداليات، ومتعلقات أخرى للعلم الوطني، وعبارات ترتبط بالولاء وحب الوطن، وتمجيد الوحدة اليمنية.. وحينما خرجنا من الاحتفال، قررت أن أشتري لطفلي الحبيبين، علمين صغيرين كهدية كبيرة تغذي هوسهما وفضولهما الطفولي، وكم كانت فرحتهما كبيرة، حتى أنهما ظلا طوال الوقت يخرجان أيديهما من نوافذ السيارة ليرفرفان بهما بسعادة بالغة.. وفي الوقت الذي كانت فيه أبنتي تصدح بكلمات النشيد الوطني بين الحين والآخر، كان أخوها يعقد مقارنة مجحفة بين العلم الذي يمسك به، وبين تلك الأعلام الكبيرة الأخرى التي يشاهدها على أسطح البنايات وأعمدة الإنارة في الشوارع، ثم خلص إلى سؤال: بابا ليش ما تشتري لنا علم كبير بدل هذا الصغير؟
•لمن كل هذي القناديل؟ طوال تلك الليلة، كانت لي رحلة خاصة مع الأفكار، على أن فكرة تحليل الحالة الوطنية الجديدة التي باتت تسيطر على طفلي مؤخراً، كانت هي الطاغية. في البداية تساءلت: هل يعني ذلك أن الجرع الوطنية (التي دشنتها هيئة التوعية، قبل أشهر)، بدأت تؤتي ثمارها فعلاً؟. ربما.
فعلى ما يبدو أنها بدأت تنعكس إيجاباً على الأطفال..! لكن ماذا بشأن جيل "منتصف العمر" الذين ولدوا مع قيام الثورة، وشهدوا قيام الوحدة وهللوا لها ودافعوا عنها؟ هل يمكن أن يجدي الأمر معهم؟ أم أنه يستهدف غرس قيم الولاء والحب، وإبقاء "اليمن في قلوب" وأفئدة الأطفال، جيل المستقبل القادم؟ يا ترى مع أي فئة سينجح الأمر أكثر، مع هذه الظروف الصعبة والمعقدة التي تمر بها بلادنا؟
تأتي الإجابة من البعض بغمط ما تقوم به الهيئة، والتقليل من جهودها حينما يعتقدون أن الأطفال ما زالوا أبرياء. إلى جانب أنهم مازالوا بعيدين عن أي عقد نفسية من شيء اسمه الماضي، ولكونهم سريعي الملاحظة للمستحدثات والمستحثات التي تحيط بهم، فإن مثل هذه البهارج والزينات تستهويهم أو بالأحرى: تثيرهم بشكل خاص أكثر من غيرهم. يجزم هؤلاء.
المراهقون يأتون في المرتبة الثانية بعد الأطفال في درجة التأثر، يتلوهم الشباب الطامح والمتحمس. وكل هذه المراتب العمرية قد تنجح معها العملية بشكل كبير وإن كان متفاوتاً بحسب المرحلة العمرية، ودرجة حساسية التأثر بالمحيط، وبالتالي: العُقد التي قد تسيطر على كل فئة بقية حياتها.
ولكن، إذا ما تركنا الحديث هنا عن الأجيال الأخرى، وتحديداً بعض أجيال ما بعد الثلاثينات التي قد تكون أكثر تجربة، وأكثر وعياً، وبالتالي أكثر تأثراً بنتاج وحصاد المرحلة العمرية التي مضت وعاشوها خطوة بخطوة، وربما سكنتهم منها بعض العقد، الأمر الذي – من الراجح بطبيعة الحال – أن ينعكس سلباً أو ربما إيجاباً على درجة قبولهم بالعملية التي تقودها الهيئة الوطنية للتوعية.. إذا ما تركنا هؤلاء، جانباً، وسلطنا الضوء على الحالة الوطنية التي تعيشها اليوم الشرائح الأقل عمراً، واعتبرناها حالة نجاح نسبي - أو حتى كبير - بالنسبة لأهداف الخطة التي تسعى لتحقيقها هيئة التوعية..فإن السؤال الكبير هنا سيكون: ماذا بعد؟
وبصيغة أخرى: هل ستستطيع الهيئة أن تبقي على حالة الزخم الوطني تلك (وهي تلك الحالة التي سنعتقد أنها مسيطرة على نسبة كبيرة من تلك الشرائح العمرية) لفترة طويلة – ربما حتى بلوغها مرحلة الوعي والإدراك والتأثر السريع بالحياة المحيطة- دون أن تحدث شرخاً يفضي بهم إلى الانقلاب نحو حالة من التذمر والسخط كما حدث مع سابقيهم – أو بعضهم - من جيل الثورة، والجمهورية، وأخيراً جيل الوحدة؟
•ماضي وحاضر الولاء والحب هنا، علينا أن نتذكر أن تلك الفترة (التي تلت صعود الرئيس علي عبد الله صالح للرئاسة) كانت شهدت جرعاً وطنية كبيرة ومستمرة من التوجيه والتوعية، سعت إلى غرس قيم الولاء والحب للوطن والرئيس الذي جاء لإنقاذ البلاد من اضطراباته المتتالية.
تلك المرحلة – منذ بداية الثمانينات وحتى قيام الوحدة المباركة – تخللتها معاني الولاء وحب الوطن، حب القائد الرمز، والحفاظ على الثورة والجمهورية أكثر من أي وقت مضى. ولعل إنشاء حزب المؤتمر الشعبي العام، جاء في السياق ذاته – كما اعترف بعض رواده الأوائل – حين اعتبروه بمثابة المكون الذي سيمكنه الإبقاء والحفاظ على أو تعزيز حالة حب القائد تلك ، والولاء والدفاع عن الوطن عبر الأنشطة الوطنية والتوعوية التي سيطرت على كافة المحافظات من خلال تقديس محتويات "الميثاق الوطني" وفرضه على المدارس وكافة أجهزة الدولة المدنية والعسكرية.
كان الخميس من كل أسبوع خاص بتوعية الطلاب والموظفين والجنود بمضامين الميثاق الوطني، والتي جسدت حب القائد الرمز والولاء له وللوطن والدفاع والتضحية عنه..الخ. لقد كنا ضمن الحالة الوطنية ذاتها حينما كنا طلاباً في المدارس. بل كانت تفرض علينا معسكرات صيفية ومخيمات تعزز وتبقي على حالتنا تلك مثارة إلى درجة كبيرة جداً.
وحتى مع قيام الوحدة اليمنية في ال22 من مايو 1990، ظلت تلك الحالة قائمة فترة من الزمن، الأمر الذي أدى إلى تدافع الكثير من الشباب للانضواء في إطار المؤتمر الشعبي العام، أكثر من غيره من الأحزاب التي بدأت بالظهور للعلن والعمل السياسي، والتي كان الكثيرون مازالوا يخشونها ويعتبرونها دخيلة وربما غير وطنية كوطنية حزب الرئيس القائد. ولعل ما يعزز بقاء قوة تأثر الشباب بتلك الحالة، ما شهدته حرب صيف 1994 من تدافع شبابي كبير للدفاع عن الوحدة بأرواحهم.
إلا أنه، ومع المدى، يمكن القول إن تلك الصورة بدأت تتحطم تدريجياً بفعل حرية الرأي والتعبير، كما هي أيضاً بفعل الواقع المزري الذي بات الشباب يعيشونه من عام إلى آخر. فمع تنامي الوعي، وانكشاف بعض الحقائق، ووصول الشباب إلى مرحلة فقدان الشعور بالمواطنة المتساوية، بدأت صورة الحزب "الوطني" الوحيد تتحطم، وكان من الطبيعي أن تتأثر معها صورة الرئيس القائد الرمز في إطار من التكسر المتوالي ذاته.
وربما قد بلغ أثر ذلك، أن ارتبط الأمر لاشعورياً بالوطن ذاته، لما يعتقد البعض أنه يأتي بفعل التغذية الأولى التي ربطت بين الرئيس والوطن باعتبارهما كياناً واحداً. على أن هناك من يعتقد أن الأمر يعود فعلاً إلى الإخفاقات التي مني بها حزب الرئيس، في تحقيق حياة كريمة للجميع، واقتصار تلك الحالة فقط على أصحاب الحظوة والمقربين وقيادات الحزب العليا، وذلك على مدى مرحلة الوعي والإدراك التي رافقت الشباب خلال الفترة الماضية، على مدى العقود الثلاثة الماضية.
قد يفسر هذا الأمر، تركيز الهيئة الوطنية للتوعية، في لوحاتها العملاقة والكثيرة، على أن لا تخلوا معظمها من صورة الرئيس، مع عبارات وشعارات تأثيرية، ربما كان الهدف منها، محاولة إعادة الثقة بكونه مايزال القائد الرمز، المحقق للإنجازات..!
•فارق النجاح بين الأجيال على أن مثل هذه المحاولة، قد تنجح – كما أسلفنا – إلى حد ما، ولفترة ما، مع الفئات العمرية الأقل إدراكاً ووعياً، والأقل تأثراً بالحياة المحيطة (الأرجح أن ذلك سيكون بفعل أنهم مازالوا يعيشون مرحلة حياة ما قبل الإدراك التي لا تفرض عليهم التفكير جدياً بما يجب أن يكونوا عليه في المستقبل..! إنهم لم ينتقلوا بعد إلى مرحلة البحث عن حياتهم المستقلة، أو كيانهم الشخصي، بعيداً عن أسرهم أو من يعولهم..)، إلا أن تلك المحاولة - فعلاً - قد تجد لها انعكاساً تأثيرياً سالباً بالنسبة لجيل منتصف العمر (الأربعيني) أو جيل الشباب (الثلاثيني) الذين يعيشون ظروفاً قاسية في الوقت الذي يشعرون فيه أنهم الأفضل والأقدر من بعض – إن لم يكن كثير من - المقربين وأصحاب الحظوة.
إن معظم هؤلاء –المهملين- يعتقدون أنهم يمتلكون الكثير من المقومات، والمقدرات وحباً وطنياً كامناً في نفوسهم، إلا أنهم لم يجدوا لا الفرصة المناسبة لإثبات قدراتهم تلك، ولا المكان والوقت المناسب للتعبير عن حبهم لوطنهم من خلال ما يمكنهم تقديمه عملياً لا عبر الشعارات فقط، بينما أن: ليس فقط من يتغنى بحب الوطن، بل أيضاً ويحاول أن يجعل من نفسه وصياً ورقيباً على مشاعره الوطنية، لم يكن ليقدر أن يضاهيه، أو ينافسه لو أن الأمور سارت وفق القانون، لا الحظوة أو المكانة الأسرية، ليصبح ما أصبح عليه اليوم. بل أكثر من ذلك، بدا غالباً أن الدائرة أغلقت لتدور على الشاكلة ذاتها منذ أكثر من ثلاثة عقود تقريباً.
حوالي 6 ملايين علم جمهوري، بحسب أحد المصادر المقربة، تم تجهيزها وتوزيعها على مختلف مدارس الجمهورية. قال لي أحدهمإن المدرسين يعرضون الطلاب ل"القسم" (أي حلف يمين) أنهم سيعلقون الأعلام على أسطح منازلهم..!
جهود كبيرة، ومبالغ طائلة صرفت وتصرف على جرع إصلاح ومعالجة الضرر القائم، الذي أحدثته سياسات الإهمال والتعامل مع المواطن كآلة تابعة، الأمر الذي ربما بدأ معه مؤخراً ملاحظة أن هذه "الآلة" صدأت وبدأت بالخروج تدريجياً عن دائرة الإنتاجية المفترضة. لكن الواضح أن الاستهداف تركز أكثر على طلاب المدارس (الجيل القادم) في الوقت الذي اقتصر فيه على الشعارات وما تلتقطه العين، دون أن يوازي ذلك عملية انتقال إلى ميدان الفعل المؤثر في الحياة العامة والوجدان. أو هذا ما اتضح حتى الآن على الأقل.
•تجربة الكشاف الصغير، والجندي الشاب.. حينما كنت طفلاً في الابتدائية، ومن ثم مراهقاً في الإعدادية والثانوية، كنت منتمياً لفرقة "الكشافة" التي يتغنى أعضاؤها بالحب والولاء الوطني أكثر من غيرهم. كان الكشاف يمثل هيئة الرقابة على حب الطلاب لوطنهم، ويقسرهم على امتثال الطاعة والثبات أمام سارية العلم أثناء النشيد الوطني. ولقد كانت شعاراتنا المقدسة أقرب إلى شعارات الجندية في حب الوطن والتضحية في سبيله والطاعة للقيادة.
بعدها جاءت مرحلة الخدمة الوطنية الإلزامية في التجنيد (عامي 1989 – 1990). ليس لي سوى أن أعترف أن تصوري عن هذه المرحلة كان قاصراً، حينما اعتقدت أنها لن تكون سوى مرحلة تكميلية للمرحلة السابقة (بسبب سذاجة ما اعتقدت أن الأمر لا يختلف كثيراً بين الكشاف والجندي). لكن في هذه المرحلة خضعت وزملائي لعملية جراحية خلاصتها: أن الطالب المغرور بكونه طالباً ذكياً ويمتلك المعرفة اللازمة ليبقى سعيداً بقية حياته، يجب أن يتعرض للإذلال والإهانة حتى يتخلص من فكرة كونه أفضل من الضابط أو الجندي. مرت تلك العملية وفق مبدأ تسليم النفس والطاعة للضابط القوي الذي باع روحه مقدما فداء للوطن.
وبعد أكثر من عام، مضافاً إليه الغياب، تحول الطالب المعتز بمكانته والمفتخر بذكائه، إلى شيء صغير ك"قملة"، بينما تضخم الضابط والجندي في مخزون الذاكرة ك"مارد" بفعل القوة والقداسة التي فرضت علينا على مدى تلك الفترة. القداسة من كون الطالب الجندي، يجب أن يكون تابعاً للضابط والصف ضابط أو حتى الجندي المسئول عنه، كآلة لا تعطب. نفذ دون أن تناقش. وإذا ما رفضت الأمر(حتى وإن كان غير قابل للتنفيذ) فقد يتطور الوضع ليصل أحياناً إلى مد اليد وكسر ناموسك ، ومن ثم وضعك في الزنزانة..! وفي كل الأحوال عليك أن لا تتجرأ وترفض أو حتى مجرد أن تناقش، كون مبررات الطالب لن تكون مسموعة أبداً لدى القيادة العليا، التي ليس عليها، بأي حال من الأحوال، أن تخرق قاعدة الانتصار دائماً للرفيق والزميل، بكسر شوكة من تجرأ ورفض أمره أو حتى حاول مناقشته. لقد استقر مفهوم التبعية ل"الميري" مبكراً في عمق اللاشعور.
إنها الحالة التي مازلنا نعيشها حتى اليوم. فبالنظر إلى معظم ما يدور حولنا، نجد تلك الحالة هي السائدة والمسيطرة على حياتنا العامة. ربما يمكن إعادة الأمر لطبيعة نظام الحكم الذي يسيطر عليه الميري العسكري بدأ بأعلى موقع في النظام، ومروراً بأهم المواقع التي تدير شئون البلاد، بما فيها– مؤخراً – تلك التي تتعلق بتوعيتنا لما يجب أن نكون عليه دائماً. يبدو الحال أشبه ببرمجة عصبية متوالية للمجتمع السفلي الذي يجب أن يبقى تحت السيطرة.
الصورة التي تفرض أهمية لافتة للتزاحم على الكليات العسكرية، دون غيرها، لاسيما بين أبناء كبار المسئولين والشخصيات الاجتماعية والمشايخ القبليين..! وهي ذاتها التي تجعل الضابط في مرتبة أهم من التاجر ورجال المال والأعمال الذين يلجأون إلى الأول لحماية استثماراتهم وأموالهم. بل إنها أهم بكثير من مرتبة الدكتور والأكاديمي في الجامعة. فهؤلاء لا يعيرهم النظام أهمية بحيث يمنحهم أراض أو سكناً أو حتى أقل الحقوق بالحصول على "لاب توب" بينما تكاد لا تجد ضابطاً "قوياً" لا يمتلك سكنه الخاص وربما بعض الأراضي الملحقة للبيع والاستثمار..!
•مرحلة البحث عن هوية مستقلة بعد التسريح من الخدمة جاءت مرحلة الدراسة الجامعية. كانت هذه المرحلة هي الأخرى قاسية لكنها حتماً كانت أقل من سابقتها. معظمنا فرضت عليه الظروف دخول تخصصات غير التي كان يعشقها ويحلم بها. كان الاستمرار حتى التخرج، أشبه بالمستحيل، بسبب الظروف الاجتماعية والمعيشية للكثيرين. فيما كان أولاد الذوات والمسئولين وأصحاب الحظوة يحصلون على منح خارجية سهلة..!
أحياناً كانت تربطنا علاقات غير مباشرة بالقليل منهم، وإن كانت لا تخرج عن الحالة السائدة المؤسسة على ضرورة إدراك من أنت؟ ومن هم؟. لقد ساعدتنا تلك العلاقة أحياناً على معرفة أن بعضهم كان يرفض تلك المنح، ليس لشيء إلا لعدم رغبتهم في مواصلة الدراسة، وتفضيل حياة الأبهة والهيمنة التي كانوا يعيشونها داخل الوطن. لكن مع ذلك فقد كانت تفرض على بعضهم بالقوة. كان يجب عليهم أن يقوموا بذلك كيفما كان، لتتعزز أفضليتهم المستقبلية عن البقية.
تلتها مرحلة البحث عن الشخصية المستقلة والحصول على وظيفة مناسبة. وكانت هذه المرحلة شبيهة بالسابقة من حيث التعقيدات الطبقية التمايزية، مقارنة بما يحصل عليه أبناء المسئولين وكبار رجالات الدولة وأصحاب الحظوة من وظائف سيادية ومواقع حساسة، بينما رمي إلينا بالفتات منها..!!
•النتيجة الطبيعية في كل مرحلة من تلك المراحل، كان "الكشاف الصغير" في داخلي يضمحل، ويضمر، وتدريجياً كان ينمو عوضاً عنه "الشاب المهدور"، الذي أصبح يعيش في عالم يصفه الدكتور مصطفى حجازي ب"العالم المتخلف". والتخلف هنا – كما جاء في كتابه "التخلف الاجتماعي – مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور" - يبرز كهدر لقيمة الإنسان. "إنه الإنسان الذي فقدت إنسانيته قيمتها، وقدسيتها، والاحترام الجدير بها".
هذا العالم المتخلف، الذي يفسره حجازي – من وجهة نظر قيمية إنسانية – على أنه: "عالم فقدان الكرامة الإنسانية بمختلف صورها".. والذي "يتحول فيه الإنسان إلى شيء، إلى أداة أو وسيلة، إلى قيمة مبخسة، ويتخذ هذا التبخيس، هذا الهدر لقيمه الإنسانية وكرامته صوراً تتلخص في اثنتين أساسيتين: عالم الضرورة، والقهر التسلطي".
أما عالم القهر التسلطي – وهو الأكثر ملائمة لما نريده هنا – فهو في نظر المؤلف "عالم سيادة القلة ذات الحظوة التي تفرض هيمنتها على الغالبية بالتحالف مع قوى خارجية استعمارية صريحة أو مقنعة، خالقة نموذجاً عاماً من علاقة التسلط والرضوخ، تمارس فيها أنواعاً متعددة من العنف المادي والمعنوي..".
لقد كانت حياة الإذلال والقهر المبرمجة تواصل سيرها مع الأجيال المتتالية على نحو تمايزي واضح، وبشكل متوالي، حتى أفضت إلى حالة من التمزق الوجداني..التمزق كنتيجة للصراع الداخلي بين ضرورة القبول بتلك الأوضاع كيفما كانت، والبقاء كمجرد آلات مبرمجة، خاضعة، ليس عليها أن تشعر بشيء أو نتذمر من شيء، ولكن في الوقت ذاته، كان يتوجب عليها أن لا تفقد إحساسها بالانتماء إلى الوطن..!
وحتى إن اتضح أن الانتماء للوطن كحالة شعورية يفترض أن تتجسد وتتعزز على أساس مبدأ المواطنة المتساوية، المغذية لاستمرار العملية التبادلية بين المواطن ووطنه، بين حصوله على حقه وتأديته لواجبة..إلا أن الأمر أريد له أن يبنى فقط على شطر واحد: ضرورة القيام بالواجبات، دون نيل الحقوق.
•الخلاصة أتساءل عن الماضي: ترى أين كان "أصحاب الحظوة" هؤلاء، وأبناء المسئولين، حين كان حب الوطن وتلك الأماني المثالية بالتضحية من أجله تسكن بقوة قلب "الكشاف الصغير"؟ ماذا كانوا يعملون في ذلك الوقت؟ وأين صرفوا معظم أوقاتهم؟
وأتساءل اليوم: من سحق وحطّم تلك الحالة المثالية؟ ومن منا استحق تلك النتيجة المأساوية؟ ولماذا ظل كل شيء ممكناً لأبناء الحظوة، ومعقداً، بل مستحيلاً بالنسبة للأجيال التابعة؟ ثم بعد ذلك: لماذا افترضوا أنهم هم الوطنيون الأخيار، بينما من دونهم هم الخائنون الأشرار؟
توالت تلك الأسئلة الشاردة، حتى وصلت إلى أقرب ما يكون لتلك الحلقة الدائرية: هل سينجح هؤلاء فعلاً في عمليتهم التي بدؤوها قبل أشهر لترميم الامبراطورية الخاصة بهم، والتي بدا واضحاً أن شعوراً ما بانسلالها من بين أيديهم، قد بدأ يفرض نفسه بإيقاع قوي؟ أم إنهم سينجحون في تجاوز ذلك إلى خلق وطن يتسع للجميع؟
يتعلق الأمر ب"أصحاب الحظوة"، السادة في الأعلى، المعنيين بصناعة وتخليق الحب والولاء، وفيما إذا كانوا سيعيرون اهتمامهم بشكل طويل الأمد لهذه الحالة الوجدانية التي بدأت تثير فضول أطفالنا، وبالتالي استغلال تلك الحالة بالإبقاء عليها سليمة في الوجدان دون تمزيقها ..!
أعتقد أنه تحد كبير، لا يمكن خوضه بنجاح، ما لم يدرك هؤلاء أن المفتاح هو: العمل وفق قاعدة: أنا وأنت، لا أنا فقط.