الأسبوع الماضي خيب الرئيس ظني مرة أخرى. كنت أظنه سينشغل كما الجميع بكأس العالم، وربما تتسرب إليه من المونديال الروح الرياضية فيتوقف عن التعامل مع المنافسين على أنهم مجرد أعداء ومتآمرين على الوطن، بدلاً من ذلك ذهب فخامته إلى روسيا لعقد صفقات أسلحة بقيمة مليار دولار، وكأن لا شيء ينقص البلد التعيس سوى أدوات القتل فقط. يبدو أن الرجل منذ صعوده إلى الحكم ببزته العسكرية، قبل 32 عاماً، لا ينوي التخلي عنها أبداً، رغم بدلاته الإيطالية المفرطة الأناقة والترتيب التي يظهر بها دائماً مصدراً لأوامر الحرب أو قرارات إنهائها. خلال الأسبوع نفسه كانت دراسة بحثية تؤكد خسارة البلد لما يقارب 13 مليار دولار جراء تقاتل اليمنيين فيما بينهم في حرب صيف 94 وحروب صعدة الستة، ويرتفع الرقم إلى 18 مليار دولار خلال العشرين عاماً الماضية بحسب تقرير حكومي. في الأسبوع نفسه أعلنت الداخلية ضبطها 11268 قطعة سلاح مخالفة خلال شهر يونيو الماضي، بمعدل 375 قطعة يومياً. ويزيد عدد قطع السلاح التي ضبطتها أجهزة الأمن منذ بدء حملة منع حيازة السلاح عن 650 ألف قطعة. كأننا في معسكر وليس وطن، ولذلك يذهب اليمنيون يومياً إلى حتفهم بسبب النزاعات الصغيرة والحروب الكبيرة التي لا تجد حلاً في نهاية المطاف سوى الرصاص، لأنها تبدو الحل الأقرب والأسهل لمجتمع يرفع شعار الموت ضد أي شيء. تقريباً نحن اليمنيون –كأفراد- نهتم أكثر من غيرنا من بقية الشعوب بشراء الأسلحة التي تلعلع في الأفراح وفي مآتم النزاعات على السواء، وكأنها الطريقة الوحيدة للتعبير الجماعي لدينا، يعني ضروري ما "نقرّح"، حتى ونحن في أعز اللحظات دفئاً ورومانسية، ففي بعض القرى هناك عادة سيئة جداً لدرجة يصعب معها الحديث عنها، إذ يتم الإعلان عن نتائج ليلة الدخلة بإطلاق الرصاص في الهواء، وكأن العريس فرغ للتو من إنجاز أعظم فتوحاته. العادة السابقة ليست في قريتنا على الأقل، لكن الولع بالأسلحة عادة أصيلة، والرجل الذي يغترب بالسنوات يعود ليشتري "الكلاشينكوف" أولاً، ثم يفكر بشراء الحاجات الأخرى. وأتذكر أننا ضحكنا ونحن صغار من أبناء كيرلا الهندية -الذين قرأنا عنهم في مجلة العربي- لاهتمامهم أثناء عودتهم إلى قراهم من دول الخليج بشراء الراديو والنظارة والساعة، وأتمنى الآن لو أن "مغتربينا" كانوا مثلهم، على الأقل لأن في تلك الأشياء التي احتقرناها توق إلى الأناقة والمعرفة وليس نزعة إلى القتل والقرّاح. ليس المغترب وحده من يذهب إلى سوق السلاح، الجميع يذهبون إلى هناك حتى أصبح لدينا فائض من السلاح يكفي لقتل كل سكان الكرة الأرضية، والحسبة بسيطة: لدينا 60 مليون قطعة سلاح، ولو افترضنا أن بجوار كل قطعة 100 رصاصة، فإنها تكفي لقتل 6 مليار نسمة، مثل هذا الكلام يفرح له كثيراً جدي علي عمر الذي سيجد فيه ما يتفاخر به كيمني في بلاد الغربة، وفي الحقيقة فإن هذه الأرقام ليست مدعاة للفخر أبداً، ومن الحمق أن نراكم إليها أعداداً إضافية. يلجأ اليمني إلى السلاح وهو يرغب في الثأر والقتل، ويلجأ إليه عندما ينزع إلى السلم والرغبة في الصلح، والقبيلة شاهد على ذلك: فهي تلجأ إلى السلاح عند الاقتتال، وتلجأ إليه عند التحكيم وطلب الصلح. الرئيس نفسه فعل ذلك فهو بعد أن قصفت الطائرات جابر الشبواني في شهر مايو الماضي أرسل إلى والده 200 "بندق" إلى جانب الملايين والصوالين، والناس على دين "رؤسائهم"، وأينما تذهب في هذه البلاد اليمنية ستجد أن لقطعة السلاح قيمة في حياة الرجل اليمني ربما أكبر من أي شيء آخر، ويحتكم لها الجميع تقريباً. يقولون إن الرجل اليمني مرتبط بسلاحه الشخصي، ويحب دائماً التباهي به، وأنا لا أحب النظر إلى مثل هذه الاعتقادات كأشياء مسلم بها. يجب أن تتغير هذه القناعات عند الناس، وأن يتحول التباهي إلى أشياء تستحق أن نعتز بها. لا يوجد في طلقة الرصاص، أو حمل الكلاشينكوف ما يستدعي المباهاة. على العكس، إنها تجعل هؤلاء الرجال الذين يعلقون قطع السلاح على أكتافهم بعيدين عن العصر، كأنهم يعيشون في غابة، أو ساحة قتال، بل وتجعلهم قذرين في كثير من الأحيان، ذلك أن الرجل "المبندق" دائماً ما يكون هندامه غير مرتب، وملابسه متسخة على الدوام. أبعد من ذلك، فإن اللجوء إلى السلاح يعني أننا فقدنا القدرة على الحوار والنقاش والتفاوض، وفقدت مؤسسات الدولة القدرة على القيام بدورها وتركت للبنادق القيام بالواجب نيابة عنها. أكتب ما سبق على خلفية كره مزمن لقطع السلاح الفتاكة، فمن بين الأشياء القليلة التي أكرهها في حياتي القول بأننا "شعب مسلح"، لمجرد أننا نعلق الكلاشينكوف على أكتفانا. ولو أننا تسلحنا بأشياء أخرى غير أدوات الموت هذه لكان التباهي في مكانه. يحتاج اليمني اليوم -وأكثر من أي وقت مضى- إلى أن يتسلح بالحكمة التي تعينه على تجاوز المحنة التي يعيشها، ولا يحتاج إلى التزود بالسلاح الذي يفاقم المشكلات ولا يحلها، ومع ذلك يصر رئيس العسكر على معالجة الأمور بأسلحة روسية.. وهذا ليس وقت السلاح الروسي أبداً. تذكر يا سيدي الرئيس وأنت عائد من روسيا أن ترسانة الاتحاد السوفيتي التقليدية وغير التقليدية التي تشتري اليوم بعض بقاياها لم تحل دون انهيار وحدة الاتحاد السوفيتي، لقد انهار ذلك الاتحاد دون أن يستفيد من رصاصة واحدة. المصدر أونلاين