على وقع الدراما الدموية التي شهدتها عدن في يناير الماضي ، وما أشّرت اليه من استنساخ واستمساخ ل13 يناير 1986م ، وعلى ما نسمع ونشهد هذه الأيام من صراع على السلطة والنفوذ ، ومن اضطرام واحتدام وفرز على الهوية ، وشحن للحرب وقعقعة للسلاح ، ولعلعة نيران واغتيالات وتفجيرات استدعى أحد الأصدقاء الشاعر الكبير سعدي يوسف الذي طالما أحب عدن ، وبها جن وافتتن ، إلى أن حلت طامة يناير ، واقتلعت هذا العاشق الكبير لعدن منها. قبل أن ينقشع غبار الوغى عن أرجائها قائلا : أنا في عدن . 1986 كنت أرنو إلى جبل كان يسمى حديداً . ولكنه اليوم احمرُ . قد قال رامبو آنا الآن اسكن في الفُوهة . ليت رامبو رأى ما رأيت . الجحيم الذي كان في عهده خامداً, لم يعد خامداً .. كان احمراً في بهجة الانتحار . و في صيف موسكو أسير إلى الساحة .. العلم الأحمر المتألق منعقد في الجبين . .. جاء هذا الاستدعاء متحفزاً بشواهد ووقائع تسيل في مجرى التكرار السقيم لتجربة فاشلة وفاجعة . أن تكرار تجربة فاشلة يحوّل مجمل الحدث إلى مسخرة , مسخرة مكلفة ثمنها ملايين الضحايا والمشردين , وخراب ديار وأوطان ونكوص إلى الظلمات . ذلك ما يعنيه يناير حين يتكرر اليوم كمسخرة هوجاء بأدوات عته ما قبل التاريخ و الأبجدية السياسية . *** بعد جائحة 21 سبتمبر 2014 أصبحت يتيما تقنياً وحرفياً حيث فارق الحياة والدي في 6 يناير2015 بعد أن تجلط و انشل , ولحقت به أمي وبينهما كانت أختي الكبيرة رحمة قد قتلت من قبل الميليشيات " الحوثفاشية " في 9 يناير 2017 . هكذا عرفت اليتم المتوحش غير انه كان يتماً تقنياً وبالمواضعات المتفق عليها لأني في الأصل البعيد والغائر من أيتام يناير الأول .. نعم من أيتام 13 يناير 1986 وللأمر علاقة وشيجة بموت الأب / الحزب وانقطاع وريد الإيديولوجية في رأسي وانسحابي (التكتيكي) من الميدان كيساري راديكالي تائه فاقد للبوصلة والاتجاه ومصاب بالتشوش والغبش والغبار المستثار بتدافع جحافل القبائل (الراديكالية) المستطيرة بيسارية داهية . *** تستحوذني الروايات كثيرا و تأسرني ولا انقطع ولا أتوقف عن الاستغوار فيها ,و اقرأ الشهيرة منها و المغمورة و المطمورة , ومن بين ما قرأت مؤخراً ثمة رواية (القوقعة) للسوري مصطفى خليفة استوقفني البطل فيها وهو يخاطب لينا بنت شقيقه الأكبر – بالمناسبة لينا هو اسم بنت أختي القتيلة – " أؤمن بقول يقول إن الإنسان لا يموت دفعة واحدة ,كلما مات له قريب أو صديق أو واحد ، من معارفه ، فإن الجزء الذي كان يحتله هذا الصديق أو القريب يموت في هذا الإنسان, ومع الأيام وتتابع سلسة الموت تكثر الأجزاء التي تموت داخلنا . تكبر مساحة يحتلها الموت . و أنا يا لينا .. احمل مقبرة كبيرة في داخلي تفتح هذه المقبرة أبوابها ليلاً .. ينظر إليّ نزلاؤها ويحادثونني ويعاتبونني ". .. هذا بالضبط ما يحدث لي ومعي هذه الأيام حيث تتملكني وتدهمني هذه المشاعر بتكاثر وعصف لا يرحم وللأمر صلة رحم باستدعائي ل (إحداث 13 يناير) واستحضاري لصورة الفقيد فاروق على احمد وإطلالته البشوشة ,الرشيقة , الذكية , الأنيقة بتقشف وذقن حليق وقميص نصف كم وحضور قوي في غرفة مدير سجن الفتح د .صالح ومصافحته لنا وترحابه بنا وكأنه صاحب البيت ,سجن الفتح بكله وكلكله . *** عن مسمى سجن (الفتح) لجأت لبعض الأصدقاء ومنهم بعض القياديين من الضباط في أمن الدولة – سابقاً- و بدا السؤال بالنسبة لمعظمهم غريباً و مريباً وتحفظوا بل امتنعوا عن الإجابة (مش وقته) إلا أن احدهم وهو صديق طيب وقيادي حراكي معروف اخبرني : " بعد الاستقلال قامت حكومة الثورة بإطلاق مسميات إسلامية على بعض الشوارع والمعسكرات والمؤسسات الحكومية مثل معسكر طارق بن زياد ومعسكر صلاح الدين وشارع آبي عبيده الجراح اللي هو حي السعادة ألان بخور مكسر ومعسكر الفتح وهو في محيط القصر المدور الرئاسي وسميت تلك المنطقة بكاملها من جولة الرئاسة حتى رامبو بالفتح. وفي الفتح منطقة تسمى برسلي ويقال معناها الرز بالصومالي وهذه المنطقة تقع تحت مستشفى نمبر 7 الذي سمي بمستشفى باصهيب العسكري. أسفل الجبل مقلب قمامة يدعونه بالعامية الشولة وعلى أنقاض هذا المقلب بني سجن أمن الدولة وغلب عليه سجن الفتح . حول المسجد توجد مخازن الحبوب أو الغلال والطريق المؤدي إلى السجن غالباً ما يكون مزدحم بسيارات النقل الكبيرة وأطفال يبيعون الخبز و الشاي والماء للحمالين .. بني السجن بتصميم ألماني حينما كانت الاستخبارات الألمانية الشرقية تقيم علاقة مع أمن الدولة وتشرف على جميع مناشطها . افتتح السجن في بداية الثمانينات وفيه أعدم وزير الخارجية محمد صالح مطيع وقيل ان قُماطه انتحر فيه وفي هذا السجن زج بمحمد سعيد عبد الله (محسن) مؤسس أمن الدولة و جئ به مكبلاً من مقر عمله في السفارة اليمنية الجنوبية في المجر ". للمعلومية –و الحديث للراوي الصديق عبد الكريم قاسم فرج – في برسلي عاش و ترعرع الكابتن الدولي علي محسن مريسي و الحكم الدولي في كرة القدم سعد خميس و الحاج صالح العيسي . وتعتبر هذه المنطقة أحب بقاع الأرض إلى قلب صديقنا الراوي الذي عاش فيها طفولته و أجمل أيام شبابه –حسب قوله . *** إن حضور ثلاثة أشخاص في تلك الغرفة – غرفة مدير السجن- يجعلها خانقة فما بالكم لو كان العدد الذي انحشر فيها يتجاوز السبعة بما فيهم فاروق والحراس عند الباب والشبابيك الحديدية ونظراتهم النارية العدوانية تجاه فاروق ومن تجرأوا على زيارته ,والصمت الذي ران ثقيلا ورصاصيا حين شرع في الكتابة بعد أن فاجأ سجانيه بل فاجأ الجميع بطلب حزمة من الأوراق وقلم لافتاً إلى أن المشافهة ليست كافية وغير مجدية فهو يرى انه من الأهمية بمكان أن يقول تصوره و رؤيته كتابة . - كيف حالك أخي منصور ؟ سألني بحنو الأخ الكبير العاتب على أخيه الشقي الذي كان يقف مع ( الطرف الأخر ) و ستظل أصداء سؤاله و تردداته تنهش في نفسي الهشة ,و ذاكرتي العميقة , وتجعلني أتلعثم بشعور وخيم بالتورط والمشاركة فيما حدث لفاروق و لغيره ولنفسي اللاهثة في استجماع ولململة أشتات وشظايا ما صار . بكامل السخاء أطل علينا يومذاك وهاهو بعد 32 سنة يعاودني مصحوباً ومرفوقاً بباقة من أصدقائه ورفاقه من صناع الرأي و منتجي المعرفة والأفكار و الرؤى والسياسات و ملامسي عبوة صناعة القرار في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية , و جلهم أساتذة كبار وأصدقاء أحباء: أحمد سالم الحنكي مدير دار الهمداني للطباعة والنشر والإصدار , زكي بركات رئيس تحرير(الثوري), احمد عبد الرحمن بشر السكرتير الإعلامي للأمين العام ,جمال الخطيب مدير عام إذاعة عدن ,عبدالله شرف سعيد رئيس تحرير صحيفة 14 أكتوبر , عبد الرحمن بلجون مدير عام التلفزيون ، إسماعيل شيباني رئيس تحرير مجلة الحارس ومدير الحكمة ، فاروق رفعت مدير تحرير 14 أكتوبر ، وتطول القائمة ، وليس بالإمكان استكمالها لو اشتملت على أسماء كل الذين قتلوا من خارج دائرة النخبة الإعلامية ، المثقفة ، القائدة لمنصات الرأي والإشهار والصوت والصورة التي تشكلت وتأهلت من ربيع الصبا في المراكز والمعاهد والجامعات في بحر الستينيات ومطلع سبعينيات القرن الفارط ، وانصقلت في غمار معارك حرب التحرير قبل الاستقلال وفي غضونه وعلى أعتاب بناء الدولة الجديدة ، وكانت خلاقة وسامقة حتى أن كل فرد فيها كان مدرسة بحد ذاته في ذلك السياق والزمن . كانوا يجمعون أنواراً وأزهاراً ويتألقون بالشعر والأغنيات والأفكار الطازجة والأحلام الأرجوانية . لقد كان الخسران عظيماً والفقدان جسيم ، ولا يعوض بأي حال من الأحوال وعلى ذلك يتكرر سؤال يناير بأفق تجاوزه والإنفكاك من تلابيبه .. من هذه الزاوية فحسب سنرد على من يقولون أن الكثيرين قتلوا وأخذوا معهم الرواة والرواية، الحكاية وشهودها ، هل يعقل أن نستنطق الموتى ؟ سنرد بسؤال : أيعقل أن يكون القتيل بلا قاتل ؟ ولمصلحة من يا ترى تبييض الشناعات والفظاعات وتعويم الجريمة وتبديد دماء كل " الشهداء" وتوزيعها بين قبائل مجهولة النسب والهوية وكل الرواة موتى . دعونا نجتهد في سبر أغوار الطرق والشبكات التي أدت إلى يناير . فاروق لم يعد ملكاً لأسرته ، ولا لرفاقه ولا لحزبه، بل ملكاً يشترك فيه جل أبناء مدينته ووطنه ، ويرون اليوم في بعض أقواله أثناء محاكمته بصراً وبصيرة لما سيحدث. بالمناسبة يجدر بالتنويه إلى أن رئيس المحكمة، وجل أعضاء هيئتها "الموقرة" هم أصدقاء ورفاق ولكن ذلك لم يمنعني من طرح المسألة على بساط النقد والتشريح . فمحكمة " الطغمة" كانت كاريكاتورية هزلية ، كما كانت المحكمة الأخرى "الزمرة " تنافسها هزلاً ومسخرة على أشلاء ودماء الضحايا ، بل " شهداء التخلف " من الطرفين. اللافت أن هيئة المحكمة – إذا ما اعدتم الاستماع إلى أشرطة المحاكمة – ركزت كثيراً على اتهام فاروق ب" التنظير" وتقصدت توريطه بالاعتراف أنه أقترف " الكتابة" وكان رئيسياً في صياغة " ورقة العمل" و " خطة المؤامرة ".. نعم لقد كانت التهمة الخطيرة والكبرى لفاروق هي : الكتابة . عليه ، لا غرابة إن كان المثقف هو المتهم رقم " 1" وكان فاروق على رأس المتهمين ، وكان هو ورفاقه وكل المثقفين في الحزب من " الطغمة" و" الزمرة " على حد سواء أشبه بالطرائد في مرمى القناصة والقتلة من أشاوس الجهل المسلح عندما ارتفعت النعال وانتكست وانكسرت الرؤوس : العقل . .. من أعطى الضوء الأخضر أو البرتقالي لنافورة الدم والعنف ، ومن فتح سبيل وصولنا إلى مرحلة القتل الثلاثي الأبعاد والنوايا , والألغام والأحزمة الناسفة والرصاص الكاتم للصوت والحلم والحرية ، والى حقبه التوشح بالسواد والإغماء تحت الرايات السوداء. كيف لنا إن لا نسال أنفسنا عن ( إحداث يناير ) التي كان فيها عدد القتلى أكثر من الجرحى بل كان القتلى بالآلاف والجرحى بالعشرات والمئات في جلجلة غير مسبوقة في تاريخ الحروب أريق فيها الدم الحرام لفاروق وغيره على أعتاب " تجربة " منكوبة . لكم يحتاج هذا الأمر من حفر والى حفر عميق لسبر استهداف ( المثقف ) بالأمس واليوم والىن وهنا ، استهداف المثقف " فاروق " الذي أدرك مبكراً إن طريق الخلاص يبدأ بالمعرفة ، من لحظه انغماسه بسنوات الجمر وحمله لفصيلة الدم ( لا ) وانتمائه المبكر للشبيبة الأولى واكتسابه القدرة على منازلة الفقر بالثقافة والتقاط جمر " المعرفة " وتحليه بالمعنى المتوقد للكرامة والرجولة التي لم تنكسر لا في السجن ولا في ساحة الإعدام. من يعيد اليوم الاستماع لتسجيلات المحاكمة لا شك سوف يستوقفه تكرار اتهام فاروق ب " التنظير " وتلك مصيبة نكراء ، فمعظم مصابنا ومصائبنا ترجع إلى غياب " التنظير " والتفكير والى فشلنا الثقافي بالدرجة الأولى والى التعويل على اشتراكية بلا اشتراكيين أو بلا ثقافة اشتراكية.
لم تدرك المحكمة ولم يكن بمقدورها أن تقفز فوق ظلها لتدرك بأن بلاوينا كلها تكمن في ضيق مساحة المعرفة في مخيخ من اعتقدوا أنهم النخبة والطليعة ، وتعلم أن الجهل هو سبب جميع أشكال المعاناة في العالم . وعلى ذلك حق لنا أن نحدق طويلا في أمر انكشافنا ونتفكر ملياً في العوامل والأسباب التي أجبرتنا على الاستقالة من التاريخ والسياسة وعلى الخلط بين المستقبل والآخره ،والاتكاء على الانتماءات الأولية والتحتية وتحويلنا شيئا فشيئا إلى شراذم بشرية ممنوعة من المستقبل ، نعترض على وجود بعضنا وننقسم على أنفسنا ونكابد المرارات والحسرات ونختنق بفضلات التاريخ، يراجع الواحد منا ، كل يوم ، سردية مولده ومسقط رأسه ويفاوض على شروط بقائه . ** ذات يوم ، بل ذات جلسة توجه القاضي لفاروق بسؤال مزدوج أن كتبت " الورقة " ؟ ليش كتبت ؟ أبتسم ساخراً : لأن خطي ملييح ؟! كان يتمتع بسخرية لاذعة وروح سجالية عالية . وفي يوم آخر سألوني " القيادة" وبعض الأصدقاء والرفاق عما قاله فاروق في السجن . - لم يقل شيئاً، ولكنه خطير جداً ، وقد تأكد لي بأنه متورط جداً ، جداً ، جداً ؟ - بماذا - ب ...الكتابة !!! خلال أقل من نصف ساعة كتب بغزارة وتدفق ، كتب وكأن لم يكن أحد يراقبه أو ينظر إليه ، كتب بدون استجداء أو استخذاء ، من غير أن يأبه لنظرات الحراس وضباط التحقيق ومدير السجن ، ومن غير أن يشطب كلمة .. أكثر من عشرين صفحة خلال دقائق ، وتحرجتُ من متابعة ماكان يطوي من صفحات ، بل كتمتُ فضولي تجاه ذلك الرجل العنيد ، الشديد الذي كان يكتب بسرعة البرق. - ماذا كتب ؟ - " القيادة " لم تكترث بماذا كتب ، بقدر ما كانت مشغولة بمعرفة ماذا قال . قيادة ما قبل الكتابة . ماذا كتب إذاً ؟! * نقلاً عن صفحة الكاتب على الفيس بوك