لاشك أن حب الوطن من الأمور الفطرية التي جُبل الإنسان عليها، فليس غريباً أبداً أن يُحب الإنسان وطنه الذي نشأ على أرضه، وشبَّ على ثراه، وترعرع بين جنباته. كما أنه ليس غريباً أن يشعر الإنسان بالحنين الصادق لوطنه عندما يُغادره إلى مكانٍ آخر، فما ذلك إلا دليلٌ على قوة الارتباط وصدق الانتماء وحتى يتحقق حب الوطن عند الإنسان لا بُد من تحقق صدق الانتماء إلى الدين أولاً، ثم الوطن ثانياً؛ إذ إن تعاليم ديننا الإسلامي الحنيف تحُث الإنسان على حب الوطن؛ ولعل خير دليلٍ على ذلك ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وقف يُخاطب مكةالمكرمة مودّعاً لها وهي وطنه الذي أُخرج منه، فقد روي عن عبد الله بن عباسٍ رضي الله عنهما أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة: « ما أطيبكِ من بلد، وأحبَّكِ إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منكِ ما سكنتُ غيركِ». . ولولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مُعلم البشرية، يُحب وطنه لما قال هذا القول الذي لو أدرك كلُ إنسانٍ مسلمٍ معناه لرأينا حب الوطن يتجلى في أجمل صوره وأصدق معانيه، ولأصبح الوطن لفظاً تحبه القلوب، وتهواه الأفئدة، وتتحرك لذكره المشاعر مفهوم الوطن في القرآن وكلمة "وطن" وإن لم ترد في القرآن -بصيغتها الثلاثية هذه- فإن مدلولها أو مفهومها الأساسي أو الجوهري ورد بيقين مع تنوع في الصيغ التعبيرية أو اللفظية (ورد مفهوم (الوطن) -في القرآن- في صيغة (الديار) و(الدار ): "و الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم" "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم""قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا" فالديار المنوه عنها، والمطلوب الدفاع عنها -هاهنا- هي (الأوطان) بلا ريب، وإلا فماذا تكون؟ ورد مفهوم الوطن في القرآن، في (صيغة الأرض المخصوصة) ومن ذلك قول الله جل ثناؤه - "وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها"... والأرض المخصوصة المقصودة -هنا- هي مكة-: وطن النبي الأول: ميلاداً ونشأة وشبابا وزواجاً وبعثة وبلاغا "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر" والأرض المخصوصة المقصودة في هذا النص هي: (الوطن) الذي مكن الله فيه لقوم آمنوا به، وتعاونوا على تطبيق منهجه شعائر وشرائع ومعنى (التمكين في الأرض) -أي الوطن- في هذه الآية المكية، مبسوط ومشروح في الآية المدنية: "وعد الله آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا هنا مفهومان متعاضدان: مفهوم: (الاستخلاف في الأرض)... ومفهوم (التمكين للدين) وهما مفهومان لا يتصوران -لا عقلا ولا واقعا- إلا في أرض مخصوصة وهي التراب أو المكان، أو (الوطن) الذي يتحقق فيه الاستخلاف والتمكين ولقد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلمم وصف مكة من "أصيل" فجرى دمعه حنينا إليها، وقال: "يا أصيل دع القلوب تقر أرأيت كيف عبر النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم عن حبه وهيامه وحنينه إلى وطنه بقوله: "يا أصيل دع القلوب تقر"، فإن ذكر بلده الحبيب -الذي ولد فيه، ونشأ تحت سمائه وفوق أرضه، وبلغ أشده وأكرم بالنبوة في رحابه منقول اسأل الله ان يحفظ بلادنا الحبيبة