أولاً : في القرآن الكريم :في القرآن الكريم لا توجد كلمة “وطن” بحرفيتها أو باشتقاقاتها؛ لكننا نجدها بمعناها في بعض الأحكام أو الإشارات القرآنية التي نستشف من خلالها قيمة المكان في الحياة الإنسانية العامة، وهي قيمة مادية ومعنوية معاً، يجب التعامل معها بإيجابية، كما يجب أن يسود التفاعل الخلاق بين الإنسان من جهة وبين محيطه بكل مكوناته من جهة ثانية، وأن يكون الخُلق القويم هو أساس التعامل بوحي من الضمير الإنساني الخالص بعيداً عن النزوات اللا أخلاقية التي يتعدى ضررها بصورة مباشرة وغير مباشرة على الآخرين، ولأجل ذلك قرر الله في كتابه الكريم تلك العقوبات الصارمة التي لا هوادة فيها تجاه من أساءوا في حق أوطانهم وتعدوا على أمنها واستقرارها فقال: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [المائدة:33] ونلاحظ العقوبة الأخيرة في سلسلة الخيارات التي ذكرها الشارع الحكيم هنا بحق من يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً، وهي قوله: (أو ينفوا من الأرض) وكيف اقترنت بما قبلها من العقوبات، وهي عقوبات صارمة لا هوادة فيها، (القتل، الصلب، تقطيع الأيدي والأرجل) ليأتي النفي من الأرض معطوفا بحرف الواو الذي تشي دلالته إلى التساوي التام خلافا لبقية حروف العطف الأخرى التي تعني التراتبية أو التراخي في المعنى كما هو معروف عند البلاغيين.. ولذا حين أشار الله في حديثه عن بني إسرائيل إلى تمردهم عن نواهيه وأوامره قرن قتل النفس بالخروج من الديار، فقال: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ..) [النساء:66] وأيضا حين خاطبهم: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ) [البقرة:84] بل إن من أسباب القتال في سبيل الله كما يقرر السياق القرآني في إطار الحديث عن بني إسرائيل كمبرر ومسوغ ودافع له هو إخراجهم من ديارهم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلأ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) [البقرة:246] وهنا يتداخل الدفاع بين الذات الإنسانية وبين الوطن باعتبار الذات جزءاً من الوطن، والوطن هو الكل الإنساني مجتمعا به تتحقق مصالح الأمة وفيه يربو معاشها. وإذا كان الإخراج من الأوطان بمثابة القتل فبمفهوم المخالفة إن البقاء في الديار نظير الحياة. ومفهوم الأرض هنا حسب القراءة المعاصرة لا يتعدى مفهوم الوطن في المفهوم والدلالة، كما أن الفساد وهو مفهوم نسبي تختلف طبيعته ومحدداته باختلاف الزمان والمكان تقدره الدولة أو الجماعة وفق معادل موضوعي بقدر ما يسقط الشر بقدر ما يقيم الخير أيضا في صورة واحدة ومتكاملة، وهذه فلسفة التشريع والتقنين. فقطع الطريق وسلب الحقوق فساد، والاستحواذ على مقدرات الأمة وحقوقها بأي صورة من الصور أيضا فساد، والإخلال بأمن المجتمع ،وأعني بالأمن هنا الأمن الشامل الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي هو أيضا فساد، وعلى الدولة أن تقف له بالمرصاد؛ بل إن من الأهمية أن تعمل الدولة ابتداء على الحد من تغوله وانتشاره وأن تجتثه من جذوره قبل أن يتعملق ويصبح عصياً على العلاج وذلك من خلال ما عرف مؤخراً بالأمن الوقائي ولكن بشروطه التي لا تجعل منه ذريعة للتعدي ومحاكمة للنوايا.. ومن الجرائم المجتمعية التي اقتضت الطرد أو النفي عن الوطن، فاحشة الزنا؛ حيث ورد في الحديث النبوي الشريف: “الثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ وَالْبِكْرُ بِالْبِكْرِ الثَّيِّبُ جَلْدُ مِائَةٍ ثُمَّ رَجْمٌ بِالْحِجَارَةِ وَالْبِكْرُ جَلْدُ مِائَةٍ ثُمَّ نَفْىُ سَنَةٍ” صحيح مسلم، حديث رقم: 4511. ولما أعرض قوم سبأ عن أمر ربهم وقد حاقت بهم العقوبات المتتالية عليهم كان من ضمنها أن شردوا عن أوطانهم (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) [سبأ:19] ومن المعروف في فلسفة العقوبة والجزاء أن العقوبة لا تكون إلا بقدر الجرم الذي ارتكبه صاحبه، ولما كان الظلم والتعدي في حق الآخر أياً كان فإن عقوبته جاءت بنفس المستوى وهو الحرمان من أعز ما يكون على النفس وهو التفريق بين المجرم وبين الوطن، لأن رسالة الأوطان تقتضي مواطنا صالحا وإيجابيا، مواطنا لا تتحكم فيه شهواته ونزواته الحقيرة التي تلحق الضرر بالآخرين، والذي يحد من طبيعة الدور المنوط بهذا الإنسان في أرضه وهو الاستخلاف، فلا شيء يدمر الأوطان كالفساد، والفساد معنى عام هنا وشامل لا يقتصر على نمط معين أو جزئية محددة في الحياة، فهناك فساد الحكام والأمراء، وهناك فساد الرعية والمواطنين، ولهذا كان ذو القرنين على مستوى المسئولية التي أنيطت به وتحملها إزاء شعبه وقد جاوز ملكه مطلع الشمس ومغربها، وقد أخبره الناس بفساد يأجوج ومأجوج، فلم يقف حائراً أو مكتوف الأيدي، أو محتقراً شأنهم قياساً إلى ملكه العظيم؛ بل سرعان ما دعا قومه: (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً) [الكهف:96] وهنا تتبدى المسئولية المشتركة بين القائد ومواطنيه، من خلال التعاون والتعاضد بين الاثنين فتتحقق النتيجة المرجوة في الإصلاح والبناء وقد خاطبهم: (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) [الكهف:95] من جانب آخر حين ذكر القرآن الكريم وفي مواضع عدة عاقبة الظلم والظالمين وهو من قبيل الفساد الاجتماعي والسياسي في الأوطان فإن ذلك ليس من قبيل السرد القصصي بقدر ما هو دعوة للتأمل والتدبر في مآلات ومصائر الفساد والفاسدين، والظلم كصورة من صور الفساد مؤذن بخراب العمران كما يذهب إلى ذلك ابن خلدون رحمه الله. (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود:117] وقد ذكر الظلم في القرآن الكريم مرات عديدة مرتبطاً بمآلاته ومصائره ارتباطاً مباشراً لا يكاد ينفك عنه على نحو يلفتنا الله إليه تجنبا لتكراره أو الوقوع فيه، والتفاتا إلى أهمية الأوطان بما يصلحها ويشيد حضارتها، وبوجه عام فقد ارتبطت كل الحضارات الإنسانية عبر التاريخ بقيم العدالة والحرية، وكذا باحترام الشعوب لأوطانها من خلال البناء والتعمير وتحمل مسئولية الاستخلاف حسب المصطلح الإسلامي. على صعيد آخر حين أشار القرآن الكريم في معرض حديثه عن المهاجرين من أهل مكة واصفاً إياهم بأنهم أعظم درجة عند الله وأنهم الفائزون، فإن ذلك في الواقع تعويض كبير بحجم المعوض عنه، وهو الوطن، قال تعالى: (الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) [التوبة:20] وكذا قوله تعالى: (لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحشر:8] كما هو الشأن نفسه بالنسبة للرسول ( صلى الله عليه وسلم ) حين خاطبه ربه مسلياً إياه وقد تكالبت عليه الخطوب وازداد عنت أهل مكة والطائف عليه: (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ) [القصص: 85] ثانياً: في الهدي النبوي تكتنز السنة النبوية بالإشارات والدلائل الكثيرة التي دعت تصريحا وتلميحا إلى حب الأوطان وتعميرها، وكذا الدفاع عنها والذود عن حياضها كواجب ديني وأخلاقي معاً.. ثمة ارتباط نفسي عميق بين الإنسان والمكان له تأثيره الكبير على حياة الفرد نفسه سلبا أو إيجابا، ارتباط يؤسس لطبيعة التصور الذاتي للكون والحياة، ويتداخل فيه الذاتي بالموضوعي إلى حد كبير، ولذا فإن الإمام الشافعي رحمه الله حين دعا إلى الهجرة والاغتراب في قصيدته الشهيرة ما في المقام لذي علم من راحة فدع الأوطان واغترب فإنه يشير ضمنيا إلى فتح أفق جديد من العلاقة التصالحية بين المكان والشعور، تصالح يفضي في نهاية المطاف إلى وجود تحوّل في بنية الفكر والعقل الذي من شأنه العمل على إعادة صياغة الشخصية بما يتناسب وميولاتها وطبيعتها، سواء الطبيعة البيولوجية التي أشارت إليها كتب الطب القديم أو الطبيعة السيكولوجية وكلاهما متداخلان في بعضهما. الدعوة التي أطلقها الشاعر الحكيم هنا لا تعني بأي حال من الأحوال التنكر للوطن الأم أو الانفصال عنه ومغادرته بصورة حمقاء، بقدر ما تعني التجدد النفسي مع المكان الجديد الذي تنثال معه روح الإبداع والعطاء والتميز لا غير، ومن الملاحظ أن مشاريع العظماء الكبيرة عبر التاريخ قد تخلقت بفعل الهجرة وابتدأت من غير الموطن الأصلي، ولم تكن الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام إلا نموذجا حيا لذلك. موقف تاريخي يستحق الالتفات إليه والتريث في البعد النفسي الذي نلمحه في واحدة من جزئيات الحوار الذي دار بين ورقة بن نوفل الراهب المعروف مع محمد قبل البعثة بعد حادثة شق الصدر وقد عرضته خديجة على ورقة بن عمها، فقال له ورقة وقد رأى عليه علامات النبوة: “لتكذبن، ولتؤذين، ولتخرجن) وهنا المفاجأة بالنسبة لذلك الشاب! لم يتفاجأ أو يستغرب أو حتى يتساءل عن تكذيب قومه له وهو الصادق الأمين عندهم! ولم يستغرب الإيذاء أو يتساءل عنه وهو الذي لم يتصور نفسه يوما ما مذنباً فيستحق العقوبة أو الهجران، كما أنه من البيت القرشي ذي العزة والمنعة فكيف سيُؤذى؟! لكنه توقف عند الأخيرة “الإخراج” قسراً من الوطن الغالي وكأنه يستشرف عن بعد تلك اللحظات الحرجة وهو يغادر مكة مكرها، فتساءل مستغرباً: أو مخرجي هم؟! وهو دليل على مدى تجذر نزعة حب الوطن في نفسه الشريفة، وقد كان فعلا.. فحين أخرج كفار قريش رسول الله ( صلى الله عليه وسلم ) من مكة وقد جهر فيها بدعوة الإسلام، غادرها مكرها تترقرق الدموع بين عينيه لمفارقتها والبعد عنها، قائلاً: والله إنك لأحب بلاد الله إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت أبدا. لا غرابة فهنا ينطق الشعور الإنساني والأحاسيس الصادقة للرسول وإن كانت من مقامه الإنساني الخالص إلا أنها مرتبطة بالنفس السوية التي منحه الله إياها وتفرد بها عن سائر الخلق ليتأكد لنا أن من كمال الفطرة السوية الحنين إلى الوطن والوفاء له والارتباط به حد التماهي، ويكشف لنا هذا النص مدى الأثر النفسي العميق الذي طرأ على الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وهو يغادر الوطن قسرا إلى موطن آخر لم يألفه من قبل؛ ولذا فحين حل بالمدينة دعا ربه: اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد.. وقد ظل ( صلى الله عليه وسلم ) وفياً لمكة موطنه الأول كل الوفاء مع حبه أيضا للمدينة التي احتضنت دعوته ونصرته، إذ إنه لم يتنكر لمكة على الرغم من كل تلك المؤاذاة التي وجدها من قومه، فقال: “لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار” فالحديث هنا تقرير للهوية التي ينبغي الحفاظ عليها، مهما كان الموطن الآخر سحا معطاء. وكأنما هذه الإشارة في الحديث النبوي هي تقرير للمدلول الشامل في الآية القرآنية: (وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِنَ الأَرْضِ نَبَاتاً) [نوح:17] وفي المعنى الشامل للآية الكريمة ما يشي بعمق الترابط الوثيق بين الإنسان وبيئته ومدى التأثر والتأثير المتبادل بينهما.. كما أن تساؤله ( صلى الله عليه وسلم ) لحسان بن ثابت وهو الشاعر المعروف الذي تبنى دوراً إعلامياً كبيراً في الدعوة منذ بواكيرها الأولى من خلال صوته الشعري حين استأذن حسان النبي في هجاء مشركي مكة، وهم كما نعرف قوم النبي وأقرباؤه، قال له النبي: “كيف بنسبي؟ فرد حسان: لأسلنّك منهم كما تسلّ الشعرة من العجين، في هذا التساؤل طرف من الارتباط النفسي بالأصل الذي ينتمي إليه.. ملمح مهم نتريث عنده ونحن بصدد الحديث عن الوطن والإنسان والعلاقة التفاعلية بين الطرفين هو فلسفة الغاية من مجمل التشريعات والقوانين والأنظمة السماوية منها والأرضية التي تنزلت أو جاءت لتنظيم العلاقة بين الناس بعضهم البعض ووضع الأطر العامة والمحددات التي بقدر ما تعمل على تقرير الحقوق الإنسانية العامة بقدر ما تعمل أيضا على إزالة الضرر ودفع الشر في أحد وجوهها، ذلك أن المجتمع لا يستقر كيانه ولا تتحدد وجهته إلا بالعمل على تحقيق هذين الشيئين وعلى صورة متوازية، وبهذا يتحقق الهدف المنشود من تكوين المجتمع أو المدينة حسب التعبير الفلسفي القديم، بمعنى أن هذه الغاية المثلى من فرض تلك العقوبات الاجتماعية هو الحفاظ على الحق العام للمجتمع أو للمدينة من أي اعتداء يطاله من أحد ممن غلبت عليهم نزواتهم وشرورهم، وهي فلسفة عامة نلمحها في كل الأديان والتعاليم السماوية والأرضية على تفاوت بينها. ملمح آخر يستدعي الوقوف عنده أيضا نجده في هدي الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) وتعاليمه هو توجيهه لأصحابه بعد يوم أحد بعدم اتخاذ موقف ما من المكان، حين غلبت عليه الصورة التشاؤمية من جبل أحد لا لشيء إلا لأنهم هزموا فيه يوم حنين فارتبط شعور الكراهية بالهزيمة مع المكان في نفوسهم، وهي ربما من رواسب الثقافة الجاهلية التي تزال راسخة في أذهان البعض، ولئلا تتجسد النزعة التشاؤمية في ذهنية الكثير من الصحابة بناء على موقف الهزيمة يوم أحد فقد رد الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) عليهم بما يبطل هذه النزعة المبنية على الوهم والتوهم وهو يستشرف المدينة مع أصحابه قائلا: “هَذِهِ طَابَةُ وَهَذَا أُحُدٌ وَهُوَ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ” صحيح مسلم، حديث رقم: 6087. إن جبل أحد جزء من الوطن، والتنكر لهذا الجزء أو التشاؤم منه هو تنكر وتشاؤم تجاه جزء من الوطن الذي يفضي في النهاية إلى التأثير السلبي في طبيعة التعامل معه ما دام الفرد يحمل شعوراً سلبياً مسبقاً عنه، وهذه من التوجيهات النفسية والتربوية الرائعة. وثمة كثير من توجيهاته النبوية الشريفة تجسد عملياً البعد الوطني في كثير منها وإن بدت صغيرة الشأن إلا أنها في مجملها تحمل ذلك المدلول الوطني في أسمى مقاصده وأرقى غاياته كإماطة الأذى عن الطريق..كالحفاظ على البيئة وعدم اقتطاع أشجارها لغير الحاجة.. كتوجيهاته بحماية الثغور.. كاهتمامه بالمستقبل كملك للأجيال.. وغير ذلك الكثير. [email protected]