ترددت كثيرا في الكتابة حول هذا الموضوع نظرا للحساسيات التي تسود المناخ السياسي اليوم لكني قررت الكتابة وألزمت نفسي باستقصاء رؤية مجردة بعيدة عن أي تأثر بالأحداث والمواقف فكانت الحصيلة هذا المقال: ولد المؤتمر الشعبي العام من رحم السلطة؛ فهو حزب لم يتدرج في العمل السياسي ليصل إلى السلطة بل أنتجه نظام قائم فكان هو الحزب الذي وصلت إليه السلطة وليس العكس. وبقدر ما كان ذلك سلبية كون الحزب أصبح ملاذا للمنتفعين والوصوليين إلا أنه كان أيضا إيجابية؛ حيث ضم الحزب كوادر من كل الأطياف السياسية والفكرية الموجودة على الساحة ما جعله متخففاً من الأيدولوجيات باختلاف أنواعها. فقد المؤتمر كثيرا من كوادره بعد الوحدة اليمنية عام 1990م حيث عادت تلك الكوادر لأحزابها التي طفت على السطح وأعلنت عن نفسها بعد إقرار التعددية السياسية مع بقاء الكثير من تلك الكوادر تحت مظلة المؤتمر سواء كان ذلك عن قناعة أو بضوء أخضر من التيارات التي قدمت منها تلك الكوادر، إلا أن ذلك لم يؤثر في مسار الحزب الممسك بزمام السلطة التي أصبح شريكا فيها ثم لم يلبث أن انفرد بها مرة أخرى بعد انتخابات 1997م ليستمر حاكما وحيدا حتى تشكيل حكومة الوحدة الوطنية بعد اندلاع ثورة الشباب السلمية عام 2011م، حيث حصل المؤتمر على نصف مقاعد الحكومة مع الاحتفاظ بمواقع أغلب كوادره في النصف الآخر منها؛ لتعاصر تلك الحكومة مرحلة الحوار الوطني ومخرجاته وحالة الاستقرار النسبي التي شهدتها البلد بعد الثورة حتى بدأت معارك إسقاط الدولة من قِبل تحالف الرئيس السابق مع الحوثيين لتكون النتيجة سقوط الدولة بيد الحوثيين وتعطيل العمل السياسي بشكل كامل. بعد سيطرة الحوثيين على صنعاء بدأ المؤتمر الشعبي العام يفقد كثيرا من الامتيازات التي كان يحظى بها حتى بعد الثورة الشبابية؛ فبالرغم من الدور المحوري لعلي عبدالله رئيس المؤتمر في وصول الحوثيين إلى صنعاء سواء عسكريا أو عبر علاقاته المتجذرة في أوساط القبائل والمناطق التي شهدت معارك ما قبل الوصول لصنعاء إلا أن الحوثيين حرصوا من أول يوم بعد نجاح الانقلاب على سحب البساط من المؤتمر الشعبي العام والبدء بتجريف قياداته وكوادره من المواقع القيادية والإدارية في كل أجهزة الدولة وفرض سيطرتها على المواقع الحساسة وخصوصا في المؤسسة الأمنية والعسكرية والعمل على استقطاب القيادات القبلية والوجاهات الاجتماعية استعدادا لمواجهة متوقعة مع شريك أصبح الانقلاب عليه مسألة وقت. حدثت المعركة الخاطفة بين الرئيس السابق والحوثيين نهاية 2017 وكانت نتيجتها السريعة صادمة لكل اليمنيين وخصوصا كوادر المؤتمر الشعبي العام لتفرز تلك النتيجة واقعا جديدا وجد فيه المؤتمر نفسه ولأول مرة في تاريخه خارج السلطة بشكل فعلي ليفقد في ضربة واحدة سلطته وقيادته التاريخية ويعاني من الاستهداف والإقصاء. لم تحتمل بنية الحزب المتكئة على السلطة وعلى شخصية الرئيس "صالح" ذلك الزلزال الكبير ما أدى لانقسامات كبيرة كانت بدايتها عند رفض عدد من كوادر الحزب وقياداته قرار التحالف مع الحوثيين وإعلان ولائهم لشرعية الرئيس عبدربه منصور هادي، إلا أن ذلك لم يكن له تأثير كبير في تصدع الحزب حتى حدثت كارثة المؤتمر الحقيقية لينفرط العقد وتفقد البوصلة وجهتها لدى غالبية كوادر الحزب ومنتسبيه، فهو حزب لم يعتد المعارضة ناهيك عن الاستهداف والملاحقة والإقصاء ولم يكن مستعدا لتحمل تبعات وضع لم يتوقعه ولم يكن في الحسبان. أفرز الفراغ الكبير الذي أحدثه مقتل الرئيس السابق رئيس المؤتمر واقعا مؤلما حيث وجد المؤتمر الممتد في طول البلاد وعرضها نفسه بلا قيادة قادرة على الحفاظ على قواعده العريضة وكوادره الكثيرة والسير به نحو بر الأمان في ظروف كان أحوج فيها إلى قائد يملأ الفراغ ويحسن المضي في طريق النجاة؛ ما أدلى لانقسامات حادة في قياداته التي تعددت ولاءاتها بحسب ظروفها الشخصية ومواقعها الجغرافية متناسية واجبها التاريخي نحو حزب كان له الفضل في وصولها إلى ما وصلت إليه. أصبح الحزب الكبير عرضة للابتزاز من أطراف عدة فهو تركة سائبة يسيل لثرائها لعاب الداخل والخارج على حد سواء؛ فالحوثيون الذين يفتقدون لحاضنة شعبية وكوادر مؤهلة عملوا على استقطاب عدد من قياداته وتكوين كيان تابع لهم، مستغلين اسم المؤتمر وحضوره الجماهيري وخبرته الإدارية حتى أصبحنا نسمع كثيرا من قيادات المؤتمر وهي تتنكر للزعيم التاريخي للحزب وتصفه بالخائن. لم تكن دولة الإمارات بعيدة عن تلك الوليمة الكبيرة فقد دخلت في سباق الاستقطاب مستغلة أموالها ووجود "أحمد" ابن الرئيس "صالح" على أراضيها لتكوِّن تيارا تابعا لها بشقيه المدني والعسكري مزودة إياه بإمكانات كبيرة وآلة إعلامية ضخمة وتستغله في مناهضة الشرعية ومناكفة أطرافها متناسيا خصومته وثأره مع من قتل قائده "الزعيم". السعودية أيضا كان لها نصيب من الكعكة إلا أنها أخف حدة في استقطابها وتكوين تيار تابع لها كونها أقرب للشرعية التي هاجر إليها عدد من قيادات المؤتمر معلنين انضمامهم إليها ليستقروا في السعودية كحال أغلب قيادات الشرعية المتواجدين في الرياض وعلى رأسهم الرئيس هادي الذي من المفترض أنه قائد المؤتمر الشعبي العام بحسب لوائح الحزب. هذا الانقسام الحاد في قيادات المؤتمر الشعبي العام الذي حدث نتيجة لعدم وجود قيادة وطنية موحدة وفاعلة وقادرة على تحمل مسؤولية هذا الإرث الجماهيري الضخم ألقى بظلاله على قواعد المؤتمر وجماهيره الكبيرة التي أصابها الدوار واعترتها الحيرة تجاه أي طريق تسلك وأي قيادة تتبع؛ ما جعل دفة القيادة تتحول من القيادات السياسية الكبيرة إلى القيادات الاجتماعية الميدانية التي استطاع الحوثيون السيطرة على كثير منها باستخدام أسلوب العصا والجزرة أو إطلاق يدها على قوت المواطن المطحون ليستخدموها في إخضاع المجتمع وقمعه والتحشيد لجبهاتهم المتعددة مستغلين حالة التخبط في المواقف وعدم وضوح الرؤية تحت تأثير الآلة الإعلامية الضخمة التي يمتلكونها. وبالرغم من الحال الذي وصل إليه حزب المؤتمر وقياداته المتباينة المواقف والولاءات إلا أنه ما زال لديه الفرصة لإعادة لملمة صفوفه والحفاظ على كيانه وجماهيره من خلال التحرر من آثار الماضي والتعامل وفق معطيات الواقع الذي تعيشه البلاد ويعيشه المؤتمر بشكل خاص، واستشعار قيادة المؤتمر للمسؤولية التاريخية الملقاة على عاتقها والشعور بالخطر الوجودي الذي يهدد الحزب نتيجة التشظي والانقسام الذي يعيشه، والتخلص من الحساسيات والأحقاد التي أفرزتها المرحلة الماضية وأحداثها المختلفة، والاستعداد لتغيير المواقف بحسب المستجدات لدفع الخطر الذي أصبح يهدد الجميع وفي مقدمتهم المؤتمر، والخروج من حالة التشفي الملازمة لكل تدهور في حالة البلد ووضعه. يجب على المؤتمر وقيادته أن يكفوا عن التغني بأمجادهم الغابرة والوقوف موقف المتفرج مما يحدث والاكتفاء بتحميل المسؤولية لأطراف أخرى؛ فالنار التي اشتعلت تحتاج إلى تظافر كل القوى الوطنية لإطفائها؛ فالمؤتمر الذي ولد من رحم الدولة ونشأ في أحضانها مطالب أكثر من غيره بالوقوف معها والعمل على تعزيز وجودها وسيطرتها والعمل على صناعة مناخ سياسي يعيد التعددية ومبدأ تداول السلطة ليحظى بفرصة استعادة دوره السياسي الذي إن لم يمكنه من العودة للكرسي بالشكل الذي كان عليه فإنه سيحافظ على وجوده ووحدة بنائه التنظيمي وستكون له مشاركته الفاعلة في صناعة مستقبل اليمن.