طبعاً ، لا أريد لأحدٍ أن يستغرب ، أول يتساءل عن ماهية علاقتي بصنعاء ، العاصمة اليمنية التى تكابد اليوم كل تفاهات الداخل من قبل الجهلة الأغبياء الذين لم يعرفوا قراءة تاريخها ، أو من قبل سفهاء الخارج الحاقدين فقراء الخيال ، الغيورين منها ، الذين لم يتمكنوا من فهم دورها هذا في التاريخ . في المستوى الخاص ، كانت صنعاء بالنسبة لي كتاب حياتي الأهم ، فتاتي الأولى، وأغنيتي الأحلى ، وخمرتي المعتقة ، سُحب العطر في فضاء الروح والوشم البديع في جدران القلب والذاكرة ، بل وبما لا يمكن وصف جمالها بأيٍ من اللغات. كم تاخذني صنعاء حتى اليوم إلى حد الموت واعياً ، وإلى أبعد مدى في الحلم بكل أدوات اليقظة في التركيز وإلتقاط كل جوانب هذا الحلم ، الناس والأمكنة والروائح والزوايا ، وكل شيئٍ تقريباً رغم غيابي عنها لما يزيد عن خمسة عشر عاماً. وفي المستوى العام ، فإن صنعاء كما قرأت مجدها حرفاً حرفا ، كانت فصلاً في القول ، هندسةً ومعماراً ومدنيةً ونظاماًً ومجتمعاً ، ولهذا بدت عبر التاريخ أكبر تهديد لبؤس القبيلة وجشع الإمامة ولأمية العسكر. سحرت صنعاء مستشرقين مهمين خلال قرون وزعماء عالميين كبار ، وأقام فيها بحاثة ودارسون سنوات طوال من حياتهم حتى أتقنوا لهجتها لدرجة لم يكد معها أن تعرف أنهم ليسوا من أبنائها إلاّ من خلال أسمائهم. القليل من الناس هو من استطاع قراءة صنعاء كعاصمةٍ تاريخيةٍ بوعي جيد ، والأقل هو من أدرك أن صنعاء ليست مدينةً لليمنيين وحدهم فقط . صنعاء هي مدينة الناس ، كل الناس ، يمنيين وعرباً وأتراكاً وفرساً وأحباشاً وهنوداً وأكراداً وغيرهم باختلاف دياناتهم ومِللهم ونِحلهم ومذاهبهم ، لا يمكنها أن تعيش وتنمو وتزدهر وتتنفس بدون كل هذا التنوع والغنى. احتضنت صنعاء كل بديعٍ من أدنى الأرض إلى أقصاها ، ولم يكن يتهددها من خطر في الماضي سوى عدوان الطبيعة ، من زلازل وكوارث مناخية ، أو في الحاضر من جهل الإنسان باعتقاده أنها أصبحت (جعالة) أي حلوى فى جيبه! بقراءةٍ أبعد مجال ، ليذهب من يريد فهم هذا إلى سوق الملح ، وليقول لي هل وجد في ماضيها وربما حتى اليوم نظام عمل ومصالح نافعة وعلاقات أرقى مثل تلك التي كانت تمثله صنعاء في هذا السوق المتعدد والمتنوع المنتجات وحتى أشكال المتعة التي يوفرها لزوارها من يمنيين وعرباً وأجانب؟ صنعاء في الأول والآخر وبالمختصر الحاسم في اختلاف أو جدل هي ضحية الفقر .. الفقر الذي غذته صحارى من حولها ، وأرادت أن تخمد وهج صنعاء بالنزاعات المذهبية المفتعلة ولا بالخونة والعملاء والمرتزقة بكل أشكالهم ، ولم يخطر ببالها أن تجعل من صنعاء محيطاً وعمقاً حيوياً استراتجياً لها بين شبه جزيرة العرب وجنوب آسيا وشرق إفريقيا.