لا تعرف غالبية اليمنيين أسماء ماركات العطور العالمية الباهظة الثمن، ولكنهم يعرفون نباتاً يفوق في نظرهم هذه الأسماء التجارية وهو الفُل، أو ما يُعرف بالياسمين اليمني. وباتت شجرة الفُل، التي يكثر انتاجها في اليمن خلال الصيف «رمز الحب والجمال» في أوساط المجتمع، وأهم انواع الزينة للمرأة اليمنية في الأعراس واللقاءات النسائية الخاصة والحفلات العائلية، حيث تتباهى كل امرأة بكمية العقود المطرزة من الفُل على صدرها على شكل قلادة. ويبقى الفُل الضيف الدائم في أعراس اليمن، حيث من التقاليد قيام العريس بوضع قلادة كبيرة على عنقه يصل طولها أحياناً إلى متر، كما تتزين العروس بقلادات من الفل تصل إلى نصف متر، ويتم تطريزها أيضاً وسط شعرها. وفي المناطق الحارة اليمنية، وخصوصاً في منطقة تهامة في شمال اليمن وفي لحج جنوباً، تنتشر رواية عن زراعة الفل تقول إن أمير لحج «أحمد فضل القمندان» هو من أتى بهذه النبتة من الهند، وقام بغرسها في بستان الحسيني، ومنها انتشرت إلى مناطق أخرى. ومثلما أصبح الفُل أسطورة غرامية لارتباطه الجذري بحفلات الزواج بشكل خاص، أصبحت تجارته حرفة شعبية في المجتمع. وينتشر باعة الفُل في الشوارع الرئيسية للمدن اليمنية، ويتخذون لأنفسهم تجمعات. وفي مدينة تعز الجنوبية، ينتشر العشرات من باعة الفُل، ويقومون بعرض قلادات طويلة منه على حاملات عرض خاصة، فيما يحفظون المحصول الكامل في ثلاجات صغيرة مملوءة بالثلج للحفاظ على رائحته الزكية لأكثر من يوم. ويقول بائع الفُل فواز محمد، وهو من أبناء محافظة الحديدة في شمال البلاد، إن «الحرفة الوحيدة التي تمارسها وأنت مبتسم هي بيع الفُل، وبالرغم من دخلها الزهيد والجهد المضني في رص ثمرات وزهور الفل في عقد طويل، إلا أننا في الأخير نشعر بالمتعة، فنحن نقوم بتصدير البهجة». ويؤكد فواز محمد، الذي يتخذ من شارع جمال عبد الناصر في مدينة تعز مقراً له حيث يقف منذ الصباح الباكر حتى المساء، أن محافظة تعز هي أكبر أسواق الفُل في اليمن، حيث يأتي إليها بشكل يومي من سهل تهامة الساحلي سيارات مجهزة بثلاجات كبيرة لنقله إلى مناطق يمنية أخرى.
غير أنه يستدرك قائلاً إن «سوق الفل هذه الأيام يشهد انخفاضاً كبيراً لأننا نعتبر في قلب الموسم الخاص بحصاده حيث يكثر الانتاج، ولذلك فإن ألف ثمرة من الفُل التي يتم رصها في عقد طويل للزينة، تباع في هذه الأوقات بمبلغ أربعة آلاف ريال يمني (20 دولاراً تقريباً)، ولكن منذ عيد الاضحى المقبل (مطلع تشرين الثاني المقبل)، سيرتفع سعر العقد ذاته، الذي يزن ربع كيلوغرام، إلى ما يوازي 60 دولاراً بسبب انتهاء الموسم وقدوم فصل الشتاء». وبالرغم من عدم الاهتمام الرسمي الكبير بشجرة الفُل ومحاولة استثمارها في انشاء مصانع خاصة من أجل انتاج عطور يمنية فريدة، إلا أن كثيراً من باعة الفل يؤكدون أن سيدات يقمن بجمع ثمرات الفُل اليابسة من أجل خلطها، وصناعة مادة أخرى يطلق عليها «الزباد»، وهي مادة عطرية زكية تستخدمها المرأة كعطر خاص. وقبل حوالي عام، توصل باحثون يمنيون متخصصون في البحوث الزراعية، إلى نتائج ناجحة في تحضير مواد عطرية استخلصت من زهرة الفُل اليمني. وقال المدير الفني في «مركز الأغذية وتقانات ما بعد الحصاد» في محافظة عدن الجنوبية حسن خميس إن «منتوج الفٌل، خصوصاً الفٌل المستخدم في المناسبات الذي يتم رميه ويتحول من اللون الأبيض الفاتح إلى اللون القريب من الاصفرار تتوفر فيه مواد مركزة لمشتقات العطور». وبحسب الباحثين فإنه «أجريت تحاليل على تلك المواد، ما أظهر وجود روائح عالية جداً، وقد جرى استخلاصها بالتقطير وتعبئتها في عبوات خاصة». ودفعت هذه الخطوة، بحسب خميس، الهيئة العامة للبحوث الزراعية في صنعاء إلى التحضير لعقد دورات تدريبية لمزارعي الفل، وقد كُرست في مجال استخلاص الزيوت العطرية. وبالرغم من انتشار زراعة الفُل في محافظات باردة كمحافظة ذمار، إلا أن للفُل «التهامي» و«اللحجي» ميزته الخاصة ورائحته العطرة، ويتم تصديره بجهود ذاتية من قبل المزارعين إلى الدول الخليجية المجاورة، خصوصاً السعودية وبعض مناطق شرق آسيا. ويؤكد خبراء زراعيون أن نبات الفُل «يتطلب مناخاً استوائياً دافئاً»، وأفضل درجة حرارة للنمو هي 52 درجة مئوية على أنه يتحمل الحر الشديد ولا يتحمل البرودة المنخفضة. ويقول الخبراء أن «الفُل» يحب الضوء، وينصح بزراعته في أماكن دائمة التعرض لأشعة الشمس، ويتطلب رياً بشكل دائم قبل فترة الإزهار وخلالها لكونه لا يتحمل العطش. وتغنى الكثير من الشعراء اليمنيين بالفُل، ومن أشهر الأغاني أغنية «لحجية» شائعة، وتقول: «يا ورد يا كاذي (أحمر)، إلا يا فُل الوادي». كما يحضر الفُل يوميا في تحية الصباح بين المواطنين حيث يحرصون على تحية بعضهم البعض بالقول «صباح الفٌل».