منذ غزوته العراقية الخاطفة ارتقى داعش إلى مرتبة كبار نجوم الإعلام والصحافة والشبكات الاجتماعية وأصبح نجم "الشباك" بلا منازع حتى بات يهدد في الشعبية والشهرة نجوم السينما والموضة والكرة. وفي الوقت الذي أصبحت فيه فقاعة داعش على الإنترنت بشكل خاص ظاهرة فريدة بسبب الفظاعة والوحشية التي لا يتورع التنظيم عن ارتكابها أيان ما حلّ و رحل، فإن مؤشرات عديد توحي رغم ذلك بأن العالم أيضاً بدوره في حاجة إلى وجود مثل هذا الغول للتوجيه والاستعمال حسب الطلب.
وفي النهاية يمكن القول إن الجميع في حاجة إلى داعش وإلى مزيد من الهمجية والبربرية التي يمثلها لهدف مجهول لا علاقة له لا بالدين ولا بالسياسة ولا بالرؤية المستقبلية ولا بإحياء التراث، أو في كلمة بالحياة نفسها. بالتأمل في مسار الأحداث والمآسي التي يُسبّبها داعش والتنظيمات المشابهة على الأرض وعلى الشبكة وصفحات التواصل والمواقع الاجتماعي المختلفة، يمكن تأكيد أن التنظيم يخدم أكثر من جهة أو طرف ولا يسهل على أي منها التخلي عنه مهما حدث، فهو القناع المثالي والتسمية المعبّرة عن الجريمة المكتملة والتي يسعى الجميع لاستغلالها والإفادة منها وكما في التحقيقات الجنائية لا يزال السؤال الأول الذي تطرحه الشرطة مع كلّ جريمة، عن المستفيد وصاحب المصلحة. ولكن المشكلة مع أو بسبب داعش أن الجميع مستفيد منه بدرجة أو بأخرى، كما يستفيد التنظيم بدوره من هذا التوافق الإقليمي والمحلّي في لعبة غريبة غير مسبوقة في العلاقات الاستراتيجية بين الدول ولا بين مراكز القوى المحليّة والإقليمية. عربياً وعلى مستوى المنطقة يخدم داعش أكثر من جهة، فبشار الأسد في دمشق ينظر بعين الرضا والسّرور لانتقال العدوى إلى بغداد، لتخفيف العبء عليه أولاً ولكن أيضاً لتسجيل نقاط ثمينة في حربه الإعلامية التي يخوضها إلى جانب حربه على الأرض، وليس غريباً والحال كذلك أن تجد المقولة الرسمية السورية اليوم ولو بشكل مُحتشم قبولاً جديداً لدى الدوائر الغربية وأصحاب القرار في العالم، وهو الذي دفع منذ بدايات الأزمة بخطر التطرف والإرهاب والتشدّد إلى الواجهة لتبرير سياسته الدموية. في بغداد أيضاً لم يكن المالكي رئيس الوزراء خاصة بعد الانتخابات الأخيرة التي كرست تراجعه حتى بين الشيعة أنفسهم، ليحلم بمثل هذه الفرصة لاستعادة شعبيته و"عذريته" السياسية ليتسعيد بفضل داعش مكانته زعيم"الشيعة" والرقم الصعب في المعادلة العراقية المعقدة. ويشاطر حكام طهران صاحب بغداد نفس الارتياح والحماس لداعش، فهو الورقة الجديدة التي تسمح للملالي بمزيد إحكام سيطرتهم على العراق بدافع ديني"مشروع" هذه المرة، أوليس الشيعة في العراق هدف داعش الكبير والأول؟ ويكفي النظر إلى كلّ الحروب السابقة والتدخلات والصراعات الدولية على امتداد القرون، لندرك أهمية مسألة حماية الحريات الدينية ومنع الاضطهاد وغيرها من الحجج والمبررات خاصة في المنطقة العربية ودورها في صياغة التاريخ وصناعته.
وإذا كان ذلك حال بعض العواصم العربية المعنية بالوباء الجديد، فما بالك بالأكراد الذين يعيدون تشكيل الخارطة العراقية مع كل تحرك على الأرض لداعش، فاستكملوا الهيمنة على الشمال الكردي التاريخي وخاصة على النفط الذي في جوف كردستان الكبرى. وإذا كانت مبررات أربيل اقتصادية وتكتيكية بالأساس فإن مبرّرات القوة الكبرى في العالم الولاياتالمتحدة لا تقلّ مصلحية ولا نفعية، ففي هذه الأوقات الصعبة والمضطربة تحتاج الولاياتالمتحدة دائماً إلى مسميات واضحة وأهداف واضحة يمكن تقديمها للرأي العام الداخلي والدولي إذا ما اقتضى الأمر إجراءات خارجة عن المألوف. ومثلما كانت الولاياتالمتحدة في حاجة زمن الرئيس السابق جورج بوش الإبن إلى "محور الشرّ" والثالوث الذي ضم إيرانوالعراق وكوريا الشمالية، يلعب داعش نفس الدور المثالي في المنطقة ليسمح للولايات المتحدة التي أطلقت الفوضى الخلاقة في الشرق الأوسط بالبقاء قرب "هذه الطبخة" فتحرص عليها وتضمن بذلك ألاّ تحترق أو لاتكون صالحة للاستهلاك متى حان وقت أكلها وتقديمها للضيوف. وكما الولاياتالمتحدة يحتاج اليمين المحافظ في واشنطن ومعه اليمين العنصري الذي اجتاح أوروبا أخيراً في انتخابات البرلمان الأوروبي، إلى بُعبع مثالي يقضم بفضله مواقع ويلتهم مقاعد في البرلمانات ويؤمن له حضوراه في الحكومات الأوروبية ويساعده حشد الرأي العام ضد الغزو الإسلامي والعربي القادم لا محالة. وبالعودة إلى العالم العربي فإن قائمة المستفيدين الذين يدعون السماء ليل نهار باستمرار داعش في دفع عجلة الهمجية والبربرية إلى مداها الأقصى لا تبين عن آخرها، وفي مقدمتهم الإخوان الذين خرجوا من التاريخ، ذلك أنهم يجدون في داعش اليوم مثل الذي وجدوا في القاعدة سابقاً، النافذة التي يمكنها أن تعود بهم إلى الساحة من جديد. فداعش الذي يرفع راية الوحشية باسم الدين ينفخ مع كلّ رأس يقطعها روحاً جديدة تدبً في جسد الإخوان الذين أنهكهم قرن من العمل السري وسنة من العمل العلني الرسمي، فهم الوجه المغاير لداعش حتماً كما تقول دعايتهم وهم الوجه الحقيقي للإسلام وعنوان المصالحة بين الدين والعصر وبين المسلم والعلم وبين دار الإسلام ودار "الغير" وليس دار الحرب. ولأن القائمة بلا آخر يمكن أن نلحق بالمستفيدين من داعش جريمة العصر، حَمَلة الخطاب الطائفي من السنة أيضاً في العالم العربي وفي العراق بشكل خاص، وإذا صحّ أن العشائر والقبائل والمدافعين عن السنة في العراق يقودون العاصفة التي تضرب بلاد الرافدين، فإن المثير فعلاً صمتهم عن الجرائم وتنصلهم من الحلف والتحالف الذين أعلن عنه داعش منذ تفجر الوضع العراقي. وبالنظر إلى ما يجري على الأرض لايمكن تبرير إلا بالمناورة التكتيكية الخطيرة فداعش في نظر هؤلاء شرّ لا بد منه وتهديد فعال في وجه من يهمه الأمر، ما يفرض أحد خيارين ، إما داعش وإما نصيب أكبر من السلطة، وإذا استمر الإقصاء في حق السنة فلا تلومن المظلومين بعد ذلك من اللجوء إلى البديل داعش. ولكن كيف يفيد داعش بدوره من هذا التحالف غير المعلن؟ لايشتكي داعش حتماً من هذا الوضع المثالي فالدعاية والاهتمام أفضل طريقة للتجنيد والحصول على التمويلات فهو صاحب الصوت الأعلى في المنطقة والمرجع المتماسك في منطقة تحولت مراجعها إلى خراب وأنقاض، ولا يهم بالمناسبة إذا اختلطت راية الجهاد بتهريب المخدرات وتجنيد المنحرفين السابقين والحاليين، ولا يهم إذا تحولت الفتاوى الشرعية إلى وسيلة لإشباع تعطش مجرمين وقتلة إلى الدم والاغتصاب والإعدام العشوائي، فالمهم أنها تستقطب شباباً مدمناً ومنحرفاً وهو أمر مقدور على تجاوز بحيلتين شرعيتين وفتوى على المقاس، فالضرورات تبيح المحظورات ودفع الضرر عن المسلمين مقدم في جميع الحالات، ولا بأس إذا تحول المقاتل إلى مجرم حرب، والمتدين إلى مصاص دماء، فالمهم النوايا التي لا يعلمها إلا الله، والمهم المشروع الأكبر. ولكن داعش الذي يستقبل مئات المتقاطرين عليه من الشباب ومعهم مصادر تمويل معتبرة وشبكات علاقات مستقبلية يمكن الإفادة منها، قادر على تلبية رغبة المئات منهم في الحركة، والإثارة بدل الاكتفاء ببلاي ستايشن في بيوتهم يمكن قبل تحويلهم إلى لحم تفرمه المدافع والعمليات الانتحارية إلى دعاة جديد لشباب من كل دول العالم، وعلى الشبكات والمواقع ولابأس في المقابل من السماح لهم بالتنفيس عن العدوانية الكامنة فيهم بإعدام العشرات واغتصاب المئات فإن الله غفور في النهاية. ويسعى داعش لبقاء الوضع على ما هو عليه فقط لإيمانه بأنه لا يمكن لهؤلاء "الفتية" الذين سعوا إلى "الشهادة جيل 2.0" مثل الألعاب وبرامج الانترنت أن يشككوا في شيوخ وعلماء وقيادات داعش الذين لا يعرفهم أحد تقريباً بما أنهم يختفون وراء أقنعة وكوفيات وعمائم ولا يكشفون عن وجوههم إلاّ في القليل النادر من المناسبات، في سلوك لا يختلف كثيراًعن فرق الاغتيال والقوات الخاصة، وهو الذي يعود بنا إلى النقطة الأساسية، من يكون داعش. من هو داعش حقاً، جناح متشدد منشق عن القاعدة التي أضحت في موقف لا تحسد عليه بعد أن أحالها التنظيم الجديد على التقاعد الإيديولوجي والعملي، أم بعث لعصابة الحشاشين القديمة وقلعة ألموت الشهيرة، خاصة بالنظر إلى عنصر المخدرات ترويجاً واستهلاكاً الذي يشكل أحد ثوابت هذا التنظيم، أم هو شبكة من نوع جديد تتقاطع فيها الأوهام الشخصية بالخلفية الثقافية مع العاطفة الدينية المُحرّفة التي أنتجتها مخابر سرية استخباراتية في مكان ما لتكون النتيجة خطأً استثنائياً أو مسخاً خرافياً تماماً كما التجارب التي أفضت إلى فرانكشتاين الشهير في السينما؟ * 24