صعد الحاكم بأمر الله إلى المنبر وأصدر بياناً بمنع أكل الملوخية والجرجير، وأن يؤذن لصلاة الظهر الساعة السابعة ويؤذن لصلاة العصر في الساعة التاسعة. بيانات صادرة عن حاكم لمصر، هل صدقت هذا ؟ أنا شخصيا قرأت ذلك كثيراً في كتب عديدة وسمعت الكثير يرددون هذه الأقاويل من باب جنون الحكام، ولكن ما الدافع وراء هذا، وهل هذا حقيقي، واستكمالاً لسلسلة كشف تفاصيل صغيرة في التاريخ والبحث عن الحقيقة حتي تستقيم الأمور، سألت نفسي ما هو مصدر هذه المعلومات؟ وهل بالفعل الحاكم بأمر الله كان شغوفاً لفعل الجنون ليسجله التاريخ بالحاكم الأحمق، وهل مثال وجود القذافي كحاكم عايشناه كمثال له في الجنون؟ تولي الحاكم بأمر الله الحكم من أبيه العزيز بالله عام 996 ميلادية وكان عمره آنذاك 11 عاماً، ولكن هل طفل في سنه يستطيع أن يحكم بلد مثل مصر؟ بالطبع لا. أخذ الوصاية عليه شخص يدعي برجوان (الذي تنسب له حارة برجوان) وكان كبير الخدم في القصر، ولكن شخص غير مسؤول مثل برجوان هل سيكون أميناً علي الحكم والحاكم الذي مازال قاصراً لا يعي كيف تدار البلاد ؟ بالطبع كان من السهل استغلال الحكم والتقرب من الحاكم بأمر الله لكي يفوز من يفوز بغنائم من السلطة، كانت هناك معركة كبيرة بين طرفين طامحين في استغلال صغر سن الحاكم، الشيخ كتامة وبرجوان، استطاع أن يفوز الشيخ كتامة بشؤون الدولة، ولكن برجوان لم يصمت استطاع أن يستردها منه عن طريق إثارة طوائف المشارقة ضد المغاربة لتنتصر طوائف المشارقة ويهرب الشيخ كتامة. حتى الآن لم يظهر دور الحاكم بأمر الله في إدارة البلاد، ولكن بعد هروب الشيخ كتامة استطاع برجوان أن يكون طائفة خاصة به من المماليك والجند وتولي شؤون الدولة، وسرعان ما تحول برجوان إلى سفاح ومستبد وكون ثروة هائلة مستغلاً صغر عمر الحاكم بأمر الله، كما أن اهتمامه باللهو جعله يهمل إدارة الدولة وانتشر الفساد. وهنا كبر الحاكم بأمر الله وصار عمره 15 عاماً، يستطيع أن يميز ويستطيع أن يقرر، وكان أول قرار فكر فيه هو كيف يتخلص من برجوان الفاسد، وبالفعل يقتله ويتخلص من رجاله، وكان يعلم ما يكفيه عن الشيخ كتامة الذي هرب فخشي أن يعود مرة أخرى فحرض عليه بعض رجاله من طوائف المشارقة وقتله. وهنا انتشرت أقاويل ضد الحاكم ورددها الكثيرون بأنه بعد أن أمسك الحكم تحول الي سفاك دماء لأنه قتل برجوان الفاسد، واضطهد العلماء وكتب علي المساجد شتائم للصحابة وهدم الكنائس وأجبرهم علي لبس أجراس ثقيلة وصلبان في رقابهم، وقالوا إنه تراجع عن هذا ومسح سب الصحابة. لكن الرجل الذي أنشأ دار الحكمة لتنافس المكتبات الكبرى في بغداد وقرطبة والتي كانت تضم عدداً كبيراً من القراء والنحاة والأطباء والفقهاء ، هل هذا الرجل من الممكن يكون مضطهداً للعلماء؟ وذكر المقريزي أن المسيحين احتفلوا بعيد الغطاس بشكل كبير، فهل يكون هو من يهدم الكنائس؟ بالطبع ارتكب جرائم عدة في بداية فهمه لإدارة الحكم وخصوصاً أنه كان محاطاً بالخونة والمستغلين وأصحاب المصالح، ويقال إنه زهد الملابس المذهبة وأطعم الفقير كما كان يفعل والده العزيز بالله. وجاء رجل مجنون شيعي يدعي حمزة الزوزني أخذ يدعو لتأليه الحاكم بأمر الله ويتحدث عن كرامته وأن روح الله نزلت في آدم وعلي بن طالب وثالهم الحاكم بأمر الله وبدأت الفكرة تنتشر، وهو من نشر فكرة أنه المهدي المنتظر وأنه سيعود مرة أخرى، وخصوصاً أن حكاية قتل الحاكم بأمر الله لم يستدل عليها وفيها أقاويل، وذلك بسبب كثرة الخصوم الذين يطمعون في الحكم وصراعاته مع العباسيين والقرامطة، والأقرب للتصديق بالنسبة لي هو أن اخته ست الملك تآمرت مع الوزير سيف الدين رواس، انتظرا خروج الحاكم بالله للتنزه في صحراء حلوان فأرسلا خلفه عبيداً وقتلوه عام 1020 ميلادية. بعض المؤرخين يميلون إلى فكرة الحاكم الأحمق والذي منع الملوخية والجرجير وهذا أكثر اثارة في القراءة، وأيضاً يستطيع المؤرخون الاستدلال به في كل عصر ويقدمون تحليلاً للعصر الحديث أن بلاهة حكامنا لها أصل تاريخي مثلما فعلوا مع محمد مرسي ويظلمون الحاكم بأمر الله، ولكن بلاهة الحاكم الحالي عشناها بتفاصيلها، ومن الملفت للنظر إن المؤرخين المعنيين بتوثيق تاريخ الفاطميين مثل المقريزي وابن تغري بردي لم يكتبوا مثل هذه الأقاويل وإنما ذكرت لأول مرة في كتاب تاريخ بغداد لحافظ البغدادي وتاريخ الخلفاء للأسيوطي، ويموت الحاكم بأمر الله ويظل لغزاً وحكايات لا تنتهي . * 24