في مقال نشرته مجلة فورين بوليسي الأمريكية تناول أستاذ العلاقات الدولية بجامعة هارفارد ستيفن والت تداعيات أحداث فيرغسون والاحتجاجات التي اندلعت مجدداً في نيويورك في أعقاب قرار هيئة المحلفين الكبري أول أمس بعدم توجيه اتهام إلى ضابط الشرطة المسؤول عن وفاة إريك غارنر، منتقداً السياسة الخارجية الأمريكية التي وصفها بأنها "غير واقعية وبالغة الطموح". يستهل والت مقاله قائلاً: "على الرغم من أن الأحداث المتفجرة في فيرغسون بولاية ميسوري الأمريكية قد تبدو للبعض بمثابة قضية داخلية لا ترتبط بأي حال من الأحوال بالسياسة الخارجية الأمريكية أو مكانة الولاياتالمتحدة في العالم، فإن تجديد الاحتجاجات يعكس أن قضية التمييز العنصري لا تزال الإشكالية الأعمق في الولاياتالمتحدة، لا سيّما في سياق إنفاذ القانون والعدالة الجنائية، ومن ثم ليس غريباً أن يركز المعلقون على ما تعكسه هذه الإشكالية عن الولاياتالمتحدة وما ينبغي عليها القيام به لمعالجتها".
التهميش والعنصرية يرى والت أن ما يحدث في فيرغسون والعلاقات ذات الصلة بالعنصرية في الولاياتالمتحدة بشكل عام يحمل تداعيات جديرة بالملاحظة فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الأمريكية؛ إذ لا شك في أن الأوضاع الداخلية الأمريكية تؤثر بصورة حتمية على صورتها أمام العالم والنفوذ الذي يمكن أن تمارسه. فعندما يكون الاقتصاد الأمريكي في ورطة، يتقلص دورها في المشهد العالمي، وإذا كانت الأقليات في المجتمع السكاني للولايات المتحدة لا تزال تعاني من التهميش والتمييز، ولا تحصل على المساواة في المعاملة، فإن القوة الأمريكية الكاملة لن تتحقق بالتبعية، وسوف تهتز سلطتها الأخلاقية في أعين الكثير من الملاحظين الأجانب.
مغامرات خاطئة في العراق وأفغانستان يوضح "والت" عدداً من النقاط التي تربط أحداث فيرغسون بالسياسة الخارجية؛ فعلى سبيل المثال، ثمة علاقة تبادلية بين المجهودات الطموحة التي تقوم بها الولاياتالمتحدة لتحويل أجزاء أخرى من العالم وقدرة المؤسسات الحكومية داخل الولاياتالمتحدة على تحسين حياة الأمريكيين داخل وطنهم.
يقول "والت": "لا أعتقد أن المزيد من الإنفاق الاجتماعي سيؤدى إلى القضاء على العنصرية أو حل جميع المشكلات في أماكن مثل فيرغسون، بيد أنني على يقين من أن أوضاع الأمريكيين كانت ستصبح أفضل إذا لم نضيع ثلاثة تريليون دولاراً في الإنفاق على مغامراتنا الخاطئة في العراق وأفغانستان، ولا شك في أن إنفاق بعض من هذا المال على البنية التحتية التي نحن في أشد الحاجة إليها داخل الولاياتالمتحدة في أماكن مثل فيرغسون، من شأنه أن يخلق الكثير من فرص العمل ويدفع الانتاجية الإجمالية للاقتصاد الأمريكي".
أجنده سياسية غير واقعية وصف "والت" أجندة السياسة الخارجية الأمريكية بأنها "غير واقعية وبالغة الطموح"، وأشار إلى حقيقة أنها تصرف انتباه المسؤولين الأمريكيين عن المشكلات الداخلية، فعندما اضطر الرئيس الأمريكي أوباما إلى اختبار القلق لعدة أسابيع جرّاء القضايا الخارجية التي تتعلق بأوكرانيا وسوريا وداعش والقدس وأفغانستان والعراق والإيبولا وجنوب السودان، وغيرها، فلا شك أن ذلك كان على حساب الوقت الذي كان أولى به أن يكرسه للقضايا المحلية المحورية، وبالمثل يستهلك المدعي العام الكثير من الوقت على قضايا تتعلق بالسياسية الخارجية - مثل غوانتانامو - بدلاً من إصلاح نظام العدالة الجنائية في الولاياتالمتحدة الذي وصفه "والت" بأنه "معيب للغاية".
يقول "والت": "بالطبع لا يعني ذلك أن تنعزل السياسة الخارجية للولايات المتحدة، إذ يجب على كبار المسؤولين الأمريكيين إيلاء الاهتمام بأحداث العالم واستخدام نفوذ الولاياتالمتحدة في حماية مصالحها الحيوية، ولكن في الوقت نفسه ينبغي الاعتراف بأهمية العلاقة المتوازنة بين طموحاتنا الخارجية وقدرتنا على بناء الدولة بصورة أفضل في الداخل. فعندما تظهر فجأة قضية اجتماعية كبرى مثل فيرغسون على شاشات التلفاز، يرجع هذا جزئياً إلى الاهتمام بالقضايا الخارجية في البلاد البعيدة على حساب مشاكلنا في الداخل وبدلاً من التركيز أولا على الاحتياجات المتعلقة بالمواطنين في الداخل والتحديات التي تواجههم".
الولاياتالمتحدة ليست معصمومة من الخطأ لفت "والت" إلى أن فيرغسون بمثابة ضربة لصورة الولاياتالمتحدةالأمريكية بصفتها حامل لواء المساواة وحقوق الإنسان في العالم. والواقع أن معاملة الأمريكيين السود قد أساءت لفترة طويلة للاعتقاد بأن الولاياتالمتحدة هي النموذج المثالي لبقية دول العالم، وتعكس الأحداث الأخيرة في فيرغسون أن الولاياتالمتحدة لم ترتقِ بعد إلى مستوى المثل العليا التي تدعو إليها الآخرين. لقد ظهر للعالم أن الولاياتالمتحدة ليست معصومة من الخطأ إبان إعصار كاترينا والأزمة المالية في العام 2008، وبالمثل يعكس الفشل الذريع في فيرغسون أن واشنطن لا تتوافر لديها جميع الحلول عندما يتعلق الأمر بالانقسامات الاجتماعية العميقة.
ومن وجهة نظر "والت" تقدم أحداث فيرغسون أيضاً درساً رائعاً حول قضية "بناء الأمة". لقد ناضلت الولاياتالمتحدة في محاربة مشكلة العنصرية على مدى أكثر من قرنين من الزمان، وخاضت الحرب الأهلية الدامية من أجل هذه القضية، وأُلغي الرق منذ أكثر من مائة وخمسين عاماً خلت. وعلى الرغم من إحراز تقدم هائل في هذا الشأن، فإن فيرغسون تُعد إشارة إلى أن الولاياتالمتحدة لايزال أمامها طريق طويل.
الغطرسة الأمريكية والأخطاء المتكررة يختتم "والت" مقاله قائلاً: "منذ ما يزيد على عقد من الزمان، افترضت نخب السياسة الخارجية الأمريكية – بأريحية – أن الولاياتالمتحدة لديها القدرة على إسقاط نظامي الحكم في كل من العراق وأفغانستان، ويمكنها بسرعة تشكيل مؤسسات جديدة قادرة على التعامل مع الطائفية والانقسامات القبلية العرقية العميقة بطريقة عادلة ومنصفة وفعالة. وعلى الرغم مما أسفرت عنه تلك الجهود، فإنه تم تكرار الخطأ نفسه في ليبيا في عام 2011."
ويتساءل "والت": "تُرى فيما كانت تفكر تلك النخب؟" ويجيب "والت" بأن ما حدث يجسد الغطرسة الأمريكية؛ حيث إن الولاياتالمتحدة عجزت عن إصلاح الانقسامات العنصرية على مدى أكثر من مائة وخمسين عاماً برغم اعتقادها أنها قادرة على تسوية أية انقسامات بالقدر نفسه من العمق في غضون أعوام قليلة في دول أجنبية تفهمها بالكاد.