هناك محطتان أو ثلاث، هي التي شكلت البناء الفكري والتكوين النفسي، وأسست لمخيلة الشاب – الرجل هادي. الأولى: وقد تزامنت مع اندلاع ثورة 14 أكتوبر 1964م بدخوله المدرسة العسكرية في المحمية عدن، وسوف نعرِّج على ما درسه هناك، لكنها الحدث الأبرز الذي نقل الفتى ذات ال19 ربيعاً إلى أجواء مكنته من معارف عمَّقت صلته بحاجات المستعمر البريطاني. والمحطة الثانية: عاما 72-1986م، حدثان شارك فيهما بفعالية، ضمن جبهات ظن أنها امتداد للمواجهات بين مشروعين، أحدهما نبت في قلب المستعمرة، ونال قسطاً من الرعاية، وكان يتحاشى إعلان الطلاق الكامل بين البريطانيين، وآخر قادمٌ من ريف وقرى اليمن الديمقراطية، وتحمل تطلعات الثورة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وجد هادي نفسه في قلب معركة هدفها إفراغ مخزون الثورة البشري والقيمي في نزيف مدروس يلعب طابور الجيش البريطاني دوراً مركزياً في خلق كتل الصراع.
أما أهم دروس المرحلة الثانية، امتصاصه وتشرُّبه قسمات التكوين النفسي والذهني للرئيس علي ناصر محمد، وربما يكون خلال فترة النزوح إلى الشمال قد احتك به بصورة مباشرة، فيما كانت علاقته بالرؤساء: سالمين، وقحطان، وفتاح، تكاد لا تُذكر.. فهو حتى ذلك الحين، إما ضابط صغير، أو يدرس خارج اليمن الديمقراطية في أعظم ما تورده سيرته الذاتية.
المحطة الثالثة: هي صعوده عام 1994م إلى نائب رئيس جمهورية في ركلات متوالية وغير متوقعة، ومازالت تثير دهشة العالم حيث أن قرار التعيين في أكتوبر 1994م لم يتم استحداثه رغم دخول صالح دورتين انتخابيتين حول منصب الرئيس، لكنه لم يجدد قرار نائب رئيس جمهورية. المهم أن صالح كان هو الآخر مدرسة في تشكيل تصور صالح عن أسلوب إدارة دولة بتعقيد اليمن، وهو يرى بساطة دهاء صالح حداً يصح أن نستعير من غسان شربل صفة أنه يجمع بين الحكمة المؤذية والجنون المفيد، لكن تلقيح صورة علي ناصر بالتقاط مزايا صالح بدت لهادي من الأمور العصية، الأمر الذي جعله يضطرب ويرتبك وهو يدير واحدة من أخطر محطات حياته، أي مؤامرة 2011م.
بدأت خيوط هذه المؤامرة حول صالح، الذي أصبح هدفاً للمشاريع الأمريكية البريطانية القطرية الإسرائيلية؛ كونه خصماً بسبب إنجازاته التي استطاعت أن تصنع بلداً يتحدث بندية عن مصالحه الإقليمية، ويتكلم عن مواقفه والتزاماته تجاه المجتمع الدولي.. رجل باتت نزعته الدينية، الممزوجة بالشعور والإنجاز وامتلاء الذات والقدرة على اتخاذ القرارات في أعقد اللحظات التي يتحول العرب فيها إلى قطيع تسوقه الولاياتالمتحدة حيث شاءت، حيث كان قد تمرّس العمل داخل المنظومة لفكرة التطوير والتوحيد المؤسسي للجامعة العربية، أو من خلال علاقات الجامعة العربية مع كل قُطر.. كما أنه صاحب أهم إنجاز بين القرنين، العشرين والواحد والعشرين، ووفر الأمن والاستقرار، ويخوض غمار بناء تجربة ديمقراطية فتية، وحل قضايا الحدود مع جيرانه: إريتريا، السعودية، عمان، بوسائل سلمية. هذه الشخصية التي التفت إليها الوجدان العربي هي واحدة من الأهداف التي يجب مباشرة القضاء عليها مدخلاً لاستنزاف قدرات البلد، وتدمير المكاسب التي تراكمت على يديه.. كان الحلف يتكون من فكرة طول بقاء صالح في السلطة، وتأسس حراك مدفوع الأجر يقوم على توحيد خصوم صالح في تظاهرات واعتصامات تطالبه بالرحيل، وكانت الأنظار تتجه إلى هادي الذي سيقتفي أثر علي ناصر محمد، بل يتمسك بوقع الحفر على الحافر..
وإذا استعرنا بعض ما قاله الكاتب والمفكر العراقي علي الصراف، عن هذه المرحلة، كأننا نصف هادي أو أننا نعتبر الجملة التي أوردتها "النيويورك تايمز" والتي أشارت (أن هادي يفتقر إلى القوى المؤثرة في البلاد، بالإضافة إلى طبيعته الشخصية، فهو يفتقد إلى الجرأة السياسية والحزم وسمته البطء والتردد وفقاً للتايمز، ولو أضفنا إليها أنه لا يمتلك من علوم السياسة والمعرفة السياسية إلا درساً واحداً ظل يحفظه عن ظهر غيب وعايشها في أعوامها الأخيرة حتى 1986م، بل ساهم في تشكيل أدق تفاصيلها، وتقاسم أسرارها مع جميع أبطال مأساة 13 يناير، لنعد إلى عام 2011م، ونتخيل كيف كانت حالة التماثل بين علي ناصر وهادي في أوج حالات العداء والمعارضة لصالح. كان هادي مثل علي ناصر، لم يكن واضحاً في بداية الأمر ضد صالح، ولكنه في ذات الوقت لم يكن معه واتخذ، مثل علي ناصر محمد، موقعاً وسطاً في أخطر محطات الحياة السياسية تعقيداً، وفضَّل أن يلعب دور الوسيط، إلا أن الأحداث التي تسارعت رغم تحاشي الانزلاق إلى حرب أهلية وصدامات دموية، فضَّل صالح أن يترك السلطة وليستولى عليها، كما فعل علي ناصر محمد، باعتبارها نقطة التقاء الخصوم..
لكنه ما إنْ استولى عليها، عمل مقتفياً أخطاء علي ناصر محمد، بحصر جميع السلطات في يديه، والعمل على تفكيك الكتلة القبلية والكتلة العسكرية، وضرب الأحزاب السياسية والتيارات بعضها ببعض، وظل يقاتل، منذ عام 2012م، في جبهة الاستيلاء على المؤتمر الشعبي العام، عبر العمل على تأجيج الضغوط الدولية، وتشجيع الانقسام داخل المؤتمر بلغ به حد تقديم الرشى بهدف شراء الولاءات، وظن أن هذا المعقل هو آخر ما يحتاجه أو ما يستلزمه إلى رئاسة الجمهورية – رئاسة الحوار.... إلخ؛ لتحقيق غاية تدرب عليها خلال تجربة ناصر، وهي تكوين كتلة خاصة به، تصبح في النهاية أكبر الكتل وأعظمها تأثيراً، مسلحة بموارد الدولة، ونفوذ الرئيس، والدعم الدولي، حداً جعله يزج حلفاءه الواحد تلو الآخر: بيت الأحمر – علي محسن – الإصلاح.. وظل يمسك وحده وابنه جلال وأفراد أسرته مختلف مقاليد الأمور الكبيرة والصغيرة، بما فيها إدارة المواقع الإلكترونية، أو بيع المناصب الصغيرة في المحافظات، وكما شاهد خصوم عبدالفتاح اسماعيل الأخطاء الجسيمة والمخاطر المُحدقة بالوطن المتهالك، وصلوا إلى استنتاج أن أخطاء صالح لا تمثل، حسب تعبير الصراف، ذرة أمام طيش وسوء استخدام هادي للسلطة، الأمر الذي خلق جبهة متماسكة التفتت إلى صالح باعتباره قادراً على قيادة الهجوم، ليس من أجل السلطة، بل من أجل الحفاظ على مكاسب الثورة والجمهورية والوحدة، والحد من النفوذ الخارجي.. والمفارقة أن علي ناصر محمد عندما كان ينحسر عنه التأييد الداخلي، كان يضطر إلى استجداء الدعم الخارجي، وهو ما نشاهده الآن عقب كل مواجهة سياسية يطلب هادي من السفراء والوزراء والحكومات المجاهرة بدعمه حتى يقمع الأصوات المنتقدة، وهكذا كما اضطر ناصر إلى تنظيم مجزرة، مستعيناً بقوة من محافظة أبين ضد رفاقه، نرى هادي وخاصة عند دعوته إلى الصلاة في جامع الصالح شيئاً من التفكير الذي لا يفاجئنا من تلميذ يقتفي أثر معلمه، كان الناس يحبسون أنفاسهم وهم يشاهدون تلك اللقطات التلفزيونية باسم التصالح والتسامح، لكن الأمر مضى خارج السياق، إلا أن العقل الجمعي والمفارقة أن التعبير عنه جاء محذراً من أبين.
المهم في هذه السيرة، أن علي ناصر محمد في الأخير غادر اليمن مرة وإلى الأبد، كما طرد من الحزب الاشتراكي.. أما هادي تبقى أمامه، بالإضافة إلى العزلة، خيارات التعلم من تجارب ودروس غير ما ورثه من تجربة يناير، وإذا كان قد التحق بثورة أكتوبر في آخر أيام انتصارها، هل يستطيع أن يقول إنه كان جزءاً ممن خططوا ودبَّروا فكرة الاستيلاء على السلطة عام 2011م؟؟ هذا ما سنحاول أن نعرفه من صفحات هادي المنسية.
الخلاصة، أن الرئيس يدمّر دولته، ويفكّك جيشه ويمزّق وطنه. وفي أيامه القاعدة يدخل وزارة الدفاع.. وتسقط العاصمة في غضون ساعات، وتدخل الدولة ضمن البند السابع، وتزهر الجريمة السياسية، ويتفشى الفساد، ويصبح العنف أرضية الحفاظ على السلطة خارج كل صور الشرعية. ترى ماذا يخبئ هادي من إضافات للسياق الدموي المدمّر للسلام الداخلي للمجتمع اليمني؟