جمع أحمد محمد المتوكل بين دماثة الدبلوماسي ولباقته، وبين حزم الضابط وصرامته، بين حكمة اليمن وبعد نظره، وبين التزام المؤمن وصلابته، فترك بين معارفه وأصدقائه أثراً طيباً جعله ذا مكانة عالية تليق بتاريخه ودوره في حياة اليمن العسكرية والدبلوماسية. أما في لبنان، حيث أمضى أحمد محمد المتوكل، سنوات من عمره سفيراً لبلاده لدى حكومة لبنان وشعبه في آن، فيتذكره بحب وتقدير كل من عايش صموده لسنوات في زمن الحرب الأهلية في بيروت “المشطورة” إلى غربية وشرقية، بل من عايش صموده في أقسى تلك الحرب، فيما زملاء كثيرون من سفراء الدول الأخرى أثروا الابتعاد عن بيروت وأحياناً دون أن يأتي من يخلفهم، لذلك أستحق لسنوات “عميد الدبلوماسيين في لبنان”، وأحياناً “وحيدهم” حيث لم يبق غيره من الجسم الدبلوماسي في لبنان… وأجمل ما في صمود راحلنا الكبير في لبنان، أنه كان حريصاً على التلاقي والانفتاح على كل التيارات المتصارعة في لبنان، ففي زمن القطيعة بين رئيس الجمهورية أمين الجميل، ورئيس الوزراء الدكتور سليم الحص، (1987 – 1988)، كنت تراه متنقلاً بين القصر الرئاسي في بعبدا، ومقر الرئيس الحص في منزله في عائشة بكار، فأطلق عليه اسم “السفير الجوال” تشبهاً “بالمرسوم الجوال” الذي كان يمرّر على الرئيسين والوزراء لتوقيعهما. وحتى في زمن الحكومتين (حكومة الحص وحكومة العماد ميشال عون) بقي المتوكل على صلاته بهما، بل على لعب دور بعيد عن الأضواء في حياكة الحل السياسي للمحنة اللبنانية الذي “سمي فيما بعد بأتفاق الطائف” الذي يمكن القول أن السفير المتوكل كان أحمد الممهدين له. لم تنحصر صلة الراحل العزيز بالرسميين اللبنانيين فقط، بل امتدت واتسعت لتشمل معظم شرائح المجتمع اللبناني من مفكرين ومثقفين وأدباء وإعلاميين ومبدعين ورجال أعمال رغم محدودية إمكانات اليمن المادية، وضعف تأثيره إلى بعض الدول الأخرى… ولم يكن اهتمامه محصوراً بنجوم المجتمع الذين تٌسلّط عليهم الأضواء، بل كان يتوغل في عمق المجتمع ليتعرف إلى “الجنود” المجهولين فيه مدركاً أنهم الصناع الحقيقيون للحدث وإن لم يحظوا باهتمام وسائل الإعلام. وبعد إصدارنا مجلة “المنابر” في آذار/مارس 1986، واختيارنا للصديق الكبير الدكتور عبد العزيز المقالح عضواً في هيئتها الاستشارية، اتصل بي السفير المتوكل، الذي لم أكن أعرفه بعد، طالباً اللقاء بي، فرحبت أشدّ الترحيب خصوصاً أن لليمن في ذاكرتنا القديمة والحديثة موقع متميّز، وللأصدقاء اليمنيين مكانة خاصة في عقلي وقلبي والوجدان. في ذلك اللقاء الذي تمّ في أوائل سبتمبر/أيلول 1987، حمل لي السفير المتوكل دعوة لزيارة اليمن لحضور احتفالات اليوبيل الفضي لثورة 22 سبتمبر المجيدة (25 عاماً على إعلان الجمهورية)، فقبلتها شاكراً خصوصاً أنه “لا بدّ من صنعاء وإن طال السفر…”، وبعدها تكرّرت الزيارات، وتعددت الصداقات، وتوطدت العلاقات مع جمع من أخيار اليمن، مثقفين ومبدعين وسياسيين، حتى “ظنّ” البعض أن لي في اليمن صداقات تفوق في عددها صداقاتي وعلاقاتي في لبنان… ولا أنسى أننا حين تلقينا دعوة من قيادة الحزب الاشتراكي في الشطر الجنوبي، سألت السفير المتوكل، فشجّع على تلك الزيارات، رغم التوترات بين حكومتي صنعاءوعدن، قائلاً نريد جسوراً بين شطري اليمن، وأنتم كوحدويين من لبنانيين وعرب، تعرفون أكثر من غيركم شرور التقسيم والانفصال… ذهبنا يومها في مطلع عام 1988، الوزير السابق بشارة مرهج، والأخ عدنان عيتاني، في إطار وفد تجمع اللجان والروابط الشعبية ومعنا الكاتب الصديق الأستاذ محمد كشلي صاحب العلاقات القوية مع قيادات الحزب الحاكم في اليمن الجنوبي، ونقلنا للمسؤولين رغبات أمّتهم بإصلاح ذات البين بينهم وبين إخوانهم في الشمال، خصوصاً أن توتراً حدودياً كان قائماً يومها. نقل لنا القادة في عدن عتبهم على إخوانهم في صنعاء لعدم تجاوبهم مع مبادرات أطلقوها، فقررنا التوجه إلى صنعاء لنقل الرسالة العاتبة إلى رئيس الوزراء آنذاك الشهيد عبد العزيز عبد الغني، الذي أبلغ الرئيس علي عبد الله صالح بمضمون الرسالة الشفوية التي حملناها من الرئيس حيدر أبو بكر العطاس (رئيس الوزراء في عدن)، وقادة الحزب الاشتراكي… بعد يومين علمنا، ونحن في صنعاء أن الراحل عبد الغني توجه على رأس وفد كبير إلى عدن، حيث أعيد تطبيع العلاقات وتطويرها وصولاً إلى الإعلان عن وحدة اليمن في 21 مايو/أيار 1990. كان فرح المتوكل ؟؟؟؟؟؟؟؟ كبير جداً، فهو وحدوي بالفطرة، وإيجابي بالسليقة، وكان فرحه كبيراً أيضاً حين علم أننا شكّلنا مع الدكتور عبد العزيز المقالح وعدد من شخصيات يمنية وعربية لجنة تحضيرية لعقد ندوة “المائة مثقف” لدعم الانتفاضة الفلسطينية الأولى (انتفاضة الحجارة التي انطلقت في 8/12/1987)، وقد حضر تلك الندوة ثلة من ابرار المثقفين والمبدعين العرب، قبل أشهر من انعقاد ندوة “الوحدة العربية” التي دعا إليها مركز دراسات الوحدة العربية بالتعاون مع جامعة صنعاء، والتي كانت أول جهد بحثي متكامل للوحدة العربية بكل جوانبها وعوائقها، والتي مهّدت لإطلاق العديد من مؤسسات العمل القومي العربي كالمؤتمر القومي العربي، ومخيمات الشباب القومي العربي، والجمعيات العربية المتخصصة. وفي كل هذه الفاعليات كانت بصمات راحلنا العزيز واضحة، سواء لجهة التشجيع أو التسهيل أو التنبيه إلى ملاحظات تحصن المبادرة وتحميها. لذلك حين تقاعد أحمد محمد المتوكل من السلك الدبلوماسي، تمّت دعوته لعضوية المؤتمر القومي العربي تقديراً لتاريخه القومي المشرف، ولمساهماته الجليلة في إنجاح المبادرات القومية، وكان حريصاً على أن يحضر مع صديقيه الكريمين الأستاذ عبد الحميد الحدي، والدكتور أحمد الأصبحي، كل دورات المؤتمر القومي العربي، وكل مؤتمر أو ملتقى ينعقد من أجل قضايا الأمّة، لاسيّما في فلسطين والعراق وغيرهما… كانت بيروت التي أحبها أحمد المتوكل وأحبته، محطته في كل رحلاته من صنعاء إلى عواصم العرب والغرب، وأذكر أنني حين التقيته قبيل زيارته الطبية الأخيرة إلى ألمانيا كان يتصرف وكأنها رحلة النظرة الأخيرة إلى بيروت. قلّة ربما تعرف بعض هذه المعلومات عن السفير المتوكل، الضابط السابق والعضو في مجلس الشورى، وشقيق الشخصية اليمنية اللامعة الراحل يحيى محمد المتوكل (رحمه الله)، فلقد كان متواضعاً، بعيداً عن الأضواء، مهتماً بالفعل أكثر من القول، وبالنسبة لي يكفيني أنه هو من أدخلني اليمن الحبيب الذي نأمل أن يخرج من المحنة المفروضة عليه عزيزاً كريماً. * "رأي اليوم"