تمهيد: هذه الحلقات هي مجرد محاولة استشرافية لمسار الأحداث المتوقع في بلادنا في المستقبل المنظور انطلاقاً من مجموعة من المؤشرات والدلائل والشواهد التاريخية، ورغم تعدد الاحتمالات والفرضيات في هذا المسار، إلا أنني تعمَّدت سلوك مسار الأحداث الذي يلبي رغبة قوى الحراك حتى إن كان فيه قفز على الواقع في أحيان كثيرة، وذلك لمحاولة معرفة إلى أين سيصل بنا ذلك في نهاية المطاف، هل إلى الاستقرار أم إلى الحرب الأهلية؟ أم إلى أين؟ هذا ما سنحاول معرفته:
- بعد اشتراط الشمال للقبول بمنح الجنوب حق تقرير المصير منح أبناء عدنوحضرموت الحق في تقرير مصيرهم أيضاً، فإن الشرط الثاني للشمال، في الغالب، سيتضمن المطالبة بوضع أسس ومعايير جديدة عند تقسيم ممتلكات الرجل المريض (الجمهورية اليمنية)؛ وذلك لضمان المساواة بين جميع الورثة، لما يستدعي إصلاح الخلل الذي كان قائماً بين الشمال والجنوب في موازين القوى قبل الوحدة؛ بسبب استحواذ الجنوب على المساحة الأكبر والموقع الأهم والموارد الأكثر.. لذا سيطالب الشمال بضم عدنوشبوة إليه والتحكُّم الكامل بباب المندب مع الحصول على منفذ على خليج عدن. مبررات عدة: سيستند الشمال لإقناع الآخرين بصوابية موقفه إلى ما بحوزته من أدلة ووثائق قانونية ومبررات منطقية تعزز من موقفه، ومن ذلك: 1- اتفاقية العام 1914م كونها لا تلزم الشمال بالتخلي عن مطالبه في الجنوب: - رغم محاولات الحراك تزييف التاريخ، إلا أن جميع الشواهد والأدلة تؤكد حقيقة أن اليمن ظل موحداً طوال فترات التاريخ إلا في حالات استثنائية، حتى في تلك الحالات لم يكن مقسماً على أساس شمال وجنوب، وكانت القوى الاستعمارية وراء أول تقسيم لليمن على هذا الأساس.. فبموجب اتفاقية العام 1914م بين الدولة العثمانية وبريطانيا، اتفقت الدولتان على تشكيل لجنة مشتركة لتعيين الحدود بين ولاية اليمن العثمانية ومناطق المحميات البريطانية في عدن والجنوب فيما عُرف بالخط البنفسجي. - لكن هناك عدة نقاط لافتة في هذه الاتفاقية، فهي مثلاً تميز حضرموت عن الجنوب، وهذا أمر سيصب لصالح التيار المنادي بالدولة الحضرمية في حال تم اعتماد هذه الاتفاقية ضمن المرجعيات القانونية للمفاوضات.. هذا أولاً. أما ثانياً، وهو الأهم، فيتمثل في أن البند الثاني في الاتفاقية ينص على (تخلي الدولة العثمانية عن أي مطالب لها في الجنوب وبما يخص حضرموت) فهو لا يشير إلى الشمال أو تخليه عن مطالبه بالجنوب، والنظام في الشمال لا يعتبر امتداداً، بأي شكل من الأشكال، للدولة العثمانية، وقد تعامل معها كقوة استعمارية ونجح في طردها من البلاد، إضافة إلى أن الإمام يحيى رفض الاعتراف بتلك الاتفاقية أصلاً كونها تمّت بين قوتين استعماريتين، وكل ذلك يؤكد على أن اتفاقية 1914م لا تعني الشمال لا من قريب ولا من بعيد. 2- لم يعد المعيار الذي اعتمدته اتفاقية العام 1914م لتقسيم اليمن في ذلك الوقت صالحاً لاعتماده للتقسيم في الوقت الحالي، لأنه تم في ذلك الوقت على أساس أن الجنوب عبارة عن المناطق الواقعة تحت سيطرة بريطانيا، والشمال عبارة عن المناطق الواقعة تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية، ومن ثم فإن اعتماد هذا المعيار من شأنه أن يجعل تهامة والحديدة وجزراً شمالية ككمران وبريم تابعة للجنوب جراء سيطرة بريطانيا على تلك المناطق في فترة سابقة. 3- امتلاك الشمال لورقة معاهدة عام 1934م: - هناك مبررات عدة لمطالبة الشمال بضم عدن إليه، فعدن كانت تتبع مخلاف الجند حتى العام 1732م عندما استغلت قبائل يافع ضعف وصراع الأئمة في الشمال على الحكم واستولت على لحجوعدن معلنة قيام سلطنة العبادلة، وبحكم الجغرافيا تعتبر عدن امتداداً طبيعياً للشمال. ومن نظرة سريعة إلى خريطة اليمن يمكن إدراك تلك الحقيقة بسهولة، كما أن غالبية سكانها من أصول شمالية مما جعل البعض ينظر إليها كمدينة شمالية بامتياز، ولا ننسى أن بريطانيا طلبت من الإمام يحيى تعيين نائب له (محافظ) في عدن، ورفض ذلك بحُجة عدم قدرة المملكة المتوكلية على دفع راتبه. - لكن الورقة الأهم التي يمتلكها الشمال للمطالبة بعدن هي معاهدة عام 1934م، فبعد توقيع اتفاقية العام 1914م كان الإمام يحيى يحاول بسط سيطرته على المحميات الجنوبية فدخلت قواته الضالع، وليعلن عدم اعترافه بخط الحدود الذي رسمته الاتفاقية 1914م، وقد شجع توقيع الإمام لاتفاقية صداقة عام 1926م، بإيطاليا، على دخول العواذل العليا والسفلى إلى جانب تدعيم قواته في الضالع والبيضاء، ودخل في حرب مع الإنجليز عام 1928م، لكنه انهزم فيها وأجبر الإمام على الدخول في مفاوضات انتهت بمعاهدة الصداقة والتعاون المتبادل بين اليمن وبريطانيا في 11 فبراير 1934، بعدها انسحب الإمام من مناطق المحميات التي دخلها. - الإمام رفض الاعتراف بخط الحدود الذي رسمته اتفاقية بريطانيا وتركيا، لكنه اضطر للتسليم بالوجود البريطاني في عدن لمدة أربعين عاماً - وهي مدة الاتفاقية - على أن يتم بحث موضوع الحدود قبل انتهاء مدة هذه الاتفاقية. - تنص معاهدة الصداقة والتعاون المتبادل بين اليمن وبريطانيا 11 فبراير 1934م في المادة الثالثة على: (يؤجل البت في مسألة الحدود اليمنية إلى أن تتم مفاوضات تجري بينهما قبل انتهاء مدة هذه المعاهدة بما يوافق الفريقان المتعاهدان الساميان عليه بصورة ودية وباتفاق كامل بدون إحداث أي منازعة أو مخالفة). أما المادة السادسة فتنص على (هذه المعاهدة تكون أساساً لكل الاتفاقيات التي ستعقد بعد ذلك بين الفريقين المتعاهدين الساميين حالياً ومستقبلاً) في حين تؤكد المادة السابعة صراحة على مدة الاتفاقية (...يبقى معمولاً بها لمدة أربعين سنة). - يبدو، جلياً، أن الإمام وقَّع على الاتفاقية مرغماً بسبب هزيمته العسكرية أمام بريطانيا، فإذا سلمنا بأن هذه الاتفاقية تحرم الشمال من المطالبة بالجنوب بسبب حديثها عن تأجيل البت في مسألة الحدود، وهو ما قد يفهمه البعض بأن مطالبة الإمام بجميع مناطق الجنوب أصبحت محسومة ولم يبقَ له إلا ترسيم الحدود، ربما يكون ذلك صحيحاً إلى حد ما، لكن تأكيد الاتفاقية نفسها أن العمل بها لمدة 40سنة فقط، معناه أن الاتفاقية منتهية الصلاحية ولم يعد لها أي قيمة قانونية؛ لأنها تخص فترة زمنية محددة انتهت، سيما مع حقيقة عدم إبرام أي اتفاق يقضي بتمديد العمل بها. - إذاً من الناحية القانونية ليس هناك ما يمنع الشمال من المطالبة بجميع مناطق الجنوب، لكن تغاضي الشمال عن ذلك والقبول بالاحتكام إلى الاتفاقية أمر غير مستبعد، لأنها تؤكد على حقه في إعادة النظر في المناطق التي يطالب بها، ولأن استمرار الشمال في المطالبة بعاصمة الجنوب معناه إفشال نهائي للمفاوضات الثنائية، لذا قد يقبل بالتخلي عن عدن بشروط أهمها تمكينه من التحكم الكامل بباب المندب مع الحصول على منفذ على خليج عدن وبالذات الصبيحة أو المناطق الممتدة من باب المندب حتى رأس عمران، وشرط آخر يمثل في منح أبناء عدن حق تقرير المصير. 4- عدم وجود اتفاقية حدودية مع دولة الجنوب السابقة: -لاشك أن غالبية أبناء الجنوب لن يقبلوا بمثل هذا الطرح خاصة مع حقيقة اعتراف الشمال، رسمياً، بدولة الجنوب بعد استقلالها، لكن الجميع يعرف أن ذلك الاعتراف كان اضطرارياً وفي فترة استثنائية، وكان تكتيكاً من النظام الجمهوري أكثر من كونه اعترافاً حقيقياً بدولة الجنوب، ويؤكد على ذلك ما جاء في مذكرات الراحل عبدالله الأحمر وسنان أبو لحوم، حيث أكدا أن الاعتراف جاء مع بداية حصار الملكيين للنظام الجمهوري (حصار السبعين) وأن الاعتراف بالجنوب كان لهدفين، الأول تجنب فتح جبهة ثانية للجمهوريين مع الجنوب في ظل اشتعال الجبهة مع الملكيين، والثاني جعل عدن مقراً ثانياً للنظام الجمهوري في حال سقطت الجمهورية في صنعاء. - طبعاً، هناك من سيقول إن المهم في الأمر وجود اعتراف من الشمال بدولة الجنوب ولا يهم من الناحية القانونية أكان اضطرارياً أم لا، وهذا منطق صحيح، لكن الصحيح، أيضاً، أن الشمال لم يعترف بحدوده مع الجنوب ولم يوقع معه أي اتفاقية لترسيم الحدود بينهما، ويلاحظ أن دولة الجنوب التي كان معترفاً بها من قبل كثير من دول العالم لم توقع على أي اتفاقيات لترسيم الحدود مع جيرانها بعكس وضع الجمهورية اليمنية التي لها حدود واضحة ومعترف بها دولياً بعد توقيعها على معاهدات حدودية مع السعودية وسلطنة عمان واريتريا. 4- شبوة مقابل أراضي الربع الخالي: -لا أستبعد، إطلاقاً، إقدام وفد الشمال في المفاوضات الثنائية بالمطالبة بضم شبوة إلى الشمال ضمن عملية لتبادل الأراضي مع الجنوب.. كيف؟ من المعروف أن اتفاقية جدة عام 2000م التي وقعتها الجمهورية اليمنية مع السعودية لترسيم الحدود بينهما، تخلى بموجبها الشمال نهائياً عن مطالبه في عسير ونجران وجيزان، والبالغة مساحتها أكثر من 200 ألف كيلو متر مربع، وتم منح اليمن كتعويض جزئي 44 ألف كم مربع في صحراء الربع الخالي وتم إلحاقها إدارياً بمحافظة حضرموت . - من البديهي أن يطالب الشمال للقبول بفصل الجنوب عنه بتعويض عادل عن تلك الأراضي التي كلفته دفع ثمن باهظ بالتنازل عن إقليم عسير بكامله، ولم يقبل بتلك الأراضي إلا مع وجود مؤشرات أولية بكونها منطقة واعدة بالنفط، مع ملاحظة أن إعادة تبادل أو توزيع الأراضي بين الشمال والجنوب خارج إطار اتفاقية 1914م ليس بدعة أو سابقة من نوعها، فقد تمت مبادلة للأراضي بين الإمام يحيى وبريطانيا تم بموجبها ضم البيضاء للشمال مقابل ضم الضالع ويافع الشرقية للجنوب. - أجزم أن الشمال لن يرضى بأقل من ضم شبوة إليه مقابل أراضي الربع الخالي خاصة أن شبوة بوضعها وتركيبتها القبلية هي في الواقع أقرب إلى الشمال من الجنوب، ومن غير المستبعد أن يحظى طلب الشمال بدعم ممثلي حضرموت في المفاوضات الثنائية، فالحضارمة قد يقبلون بالتنازل عن شبوة إذا كان ذلك هو الثمن الذي يجب دفعه لتحقيق حلمهم التاريخي بقيام دولتهم خاصة مع إدراكهم لحقيقة أن ضم شبوة إلى الشمال سيؤدي إلى قطع التواصل الجغرافي لحضرموت مع الجنوب العربي، ومن ثم يجعل قيام الدولة الحضرمية أمراً واقعاً لا جدال فيه. ...يتبع