قيادي حوثي يُهين ويعتدي على جندي في سجن الحديدة!    إعصار مداري وفيضانات طويلة الأمد ستضرب هذه المحافظات اليمنية.. تحذير أممي من الأيام القادمة    صنعاء.. إصابة امين عام نقابة الصحفيين ومقربين منه برصاص مسلحين    البنك المركزي اليمني يكشف ممارسات حوثية تدميرية للقطاع المصرفي مميز    وداعاً صديقي المناضل محسن بن فريد    وزير المياه والبيئة يبحث مع اليونيسف دعم مشاريع المياه والصرف الصحي مميز    "ظننا إن مرحلة التصعيد الرابعة ستكون هناك.. ولكن الصدمة انها صارت ضدنا"...احمد سيف حاشد يندد بأفعال الحوثيين في مناطق سيطرتهم    الاتحاد الأوروبي يخصص 125 مليون يورو لمواجهة الاحتياجات الإنسانية في اليمن مميز    ارتفاع حصيلة ضحايا العدوان الإسرائيلي على غزة إلى 34789 شهيدا و78204 جرحى    العين يوفر طائرتين لمشجعيه لدعمه امام يوكوهاما    في صالة الرواد بأهلي صنعاء ... أشتداد الصراع في تصفيات ابطال المحافظات للعبة كرة اليد    تياغو سيلفا يعود الى الدوري البرازيلي    ريال مدريد الإسباني يستضيف بايرن ميونيخ الألماني غدا في إياب نصف نهائي دوري أبطال أوروبا    قيادات حوثية تتصدر قائمة التجار الوحيدين لاستيرات مبيدات ممنوعة    أبو زرعه المحرّمي يلتقي قيادة وزارة الشؤون الإجتماعية والعمل    مركز الملك سلمان للإغاثة يدشن توزيع المساعدات الإيوائية للمتضررين من السيول في مديرية بيحان بمحافظة شبوة    ارتفاع اسعار النفط لليوم الثاني على التوالي    فرقاطة إيطالية تصد هجوماً للحوثيين وتسقط طائرة مسيرة في خليج عدن مميز    تنديد حكومي بجرائم المليشيا بحق أهالي "الدقاونة" بالحديدة وتقاعس بعثة الأمم المتحدة    الأمم المتحدة: أكثر من 4.5 مليون طفل في اليمن خارج المدرسة مميز    مجلس النواب ينظر في استبدال محافظ الحديدة بدلا عن وزير المالية في رئاسة مجلس إدارة صندوق دعم الحديدة    هل السلام ضرورة سعودية أم إسرائيلية؟    الأمم المتحدة: مخزون المساعدات بغزة لا يكفي لأكثر من يوم واحد    باصالح والحسني.. والتفوق الدولي!!    وصول باخرة وقود لكهرباء عدن مساء الغد الأربعاء    طلاب تعز.. والامتحان الصعب    تنفيذ حكم إعدام بحق 5 أشخاص جنوبي اليمن (أسماء وصور)    العثور على جثة ''الحجوري'' مرمية على قارعة الطريق في أبين!!    جرعة قاتلة في سعر الغاز المنزلي وعودة الطوابير الطويلة    صاعقة كهربائية تخطف روح شاب وسط اليمن في غمضة عين    كوريا الجنوبية المحطة الجديدة لسلسلة بطولات أرامكو للفرق المقدمة من صندوق الاستثمارات العامة    مليشيا الحوثي توقف مستحقات 80 عاملا بصندوق النظافة بإب بهدف السطو عليها    الهلال يهزم الأهلي ويقترب من التتويج بطلا للدوري السعودي    تهامة.. والطائفيون القتلة!    انهيار جنوني متسارع للريال اليمني .. والعملات الأجنبية تصل إلى مستوى قياسي (أسعار الصرف)    الرئيس الزُبيدي يبحث مع مسئول هندي التعاون العسكري والأمني    دار الأوبرا القطرية تستضيف حفلة ''نغم يمني في الدوحة'' (فيديو)    أول تعليق أمريكي على الهجوم الإسرائيلي في مدينة رفح "فيديو"    صفات أهل الله وخاصته.. تعرف عليها عسى أن تكون منهم    وتستمر الفضايح.. 4 قيادات حوثية تجني شهريا 19 مليون دولار من مؤسسة الاتصالات!    العثور على مؤذن الجامع الكبير مقتولا داخل غرفة مهجورة في حبيل الريدة بالحج (صور)    بأمر من رئيس مجلس القيادة الرئاسي ...الاعدام بحق قاتل في محافظة شبوة    شاهد: قهوة البصل تجتاح مواقع التواصل.. والكشف عن طريقة تحضيرها    أبطال أوروبا: باريس سان جيرمان يستضيف بوروسيا دورتموند والريال يواجه بايرن في إياب الدور قبل النهائي    ضجة بعد نشر فيديو لفنانة عربية شهيرة مع جنرال بارز في الجيش .. شاهد    البشائر العشر لمن واظب على صلاة الفجر    الشيخ علي جمعة: القرآن الكريم نزَل في الحجاز وقُرِأ في مصر    البدعة و الترفيه    حقيقة وفاة محافظ لحج التركي    تعز: 7 حالات وفاة وأكثر من 600 إصابة بالكوليرا منذ مطلع العام الجاري    ها نحن في جحر الحمار الداخلي    دعاء يغفر الذنوب والكبائر.. الجأ إلى ربك بهذه الكلمات    يا أبناء عدن: احمدوا الله على انقطاع الكهرباء فهي ضارة وملعونة و"بنت" كلب    الثلاثاء القادم في مصر مؤسسة تكوين تستضيف الروائيين (المقري ونصر الله)    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مدينة العنفوان والنبض السبئي الذي لا يموت

ذات صباح ربيع أميركي باكر، أيقظني رنين الهاتف بالحاحه المستمر، وأنا الذي ما كدت أغمض عيني، بعد ليل طويل وشاق قضيته في الكتابة، كما هي عادتي دائماً، لأجد في نهاية الخط صوت الشاعر «سعيد الشدادي» يرحب بي ويدعوني للمشاركة في «ملتقى الشعراء الشباب الأول» والذي اتخذ عنواناً فرعياً «التسعينيون وآفاق الكتابة» ويصر على دعوته نظراً لأن وزير الثقافة كان قد كلفه شخصياً بذلك.
اعترف بأنني ترددت في باديء الأمر، فما الذي سأقوله لمدينتي الأثيرة بعد تسع عجاف من الغياب ؟ لكن وعندما كرر «سعيد الشدادي» دعوته التي كما قال، أصر عليها وزير الثقافة والسياحة بالإسم، أدركت بأن الوقت قد حان للعودة الى الوطن الذي تناساني تسع سنوات حارقة وكاملة وأنا الذي ما نسيته أبداً، ولم يغب عن بالي طرفة عين!!
وهكذا كان الأمر ورضخت للأمر الواقع الذي ترقبته عقداً بأكمله ناقص سنة واحدة، وذات مساء ربيعي، يماني الهوى، هبطت بي الطائرة في مطار صنعاء الدولي، ولسان حالي يردد مقولة حدي اليماني الأكبر، إمرؤ القيس الذي أنشد عند عودته للديار والأحباب والوطن، بعد غياب طال «إيه دمون، إنّا معشر يمانون، وإنا لأهلينا محبون».
هبطت الطائرة على الأرض، ومشاعري مستفزة، وأحاسيسي صاعدة، باتجاه أسئلة حرى، وهواجس وتساؤلات عارمة لا قبل لي بها، تلخصت أخيراً في سال واحد «مالذي سأقوله في حضرة المدينة البهية بعد غياب طال؟!».
لكن ولأن «صنعاء حوت كل فن» فلم تعدم هذه المدينة الخارقة التفاسير، طريقة «فنية» لإستقبالي بودها المعهود والدائم، وقد كانت تلك الطريقة تتلخص في ثلاث كلمات حاسمة «المهم بأنك عُدت!!» فمن الذي أعادنى إليك يا صنعاء، ودعاني لعناقك بكل ما في قلبي من لواعج وأشواق وجمر الحنين، بعد كل هذه السنين، وبعد هذا الجفاء من قبلك، وأنت تدركين بأنني وقفت وحيداً ذات يوم بلا نصير لا يقف إلى جواري أحد إلاّ النادر، للدفاع عن إشراقة شمس جبينك في حرب الدفاع عن الوحدة عام 94، بعدما خانك بعض الأهل، وعقوق قلة من الأبناء بجبنهم، فرفعتيهم إلى حيث لا يستحقون، كونك لا تعرفين حقيقتهم، وطعنك «الشقيق» بشماته لئيمة لا تستحقها مدينة مثلك، تشهد بهذا صحيفة «القدس العربي» التي أفردت صفحاتها بسخاء عروبي نادر وعظيم، للدفاع عنك يا مليحة، وعن حُلم أمة بأكملها في التوحد، وهجتك صحف المقت والنذالات، حينما ألمت بك خيانة الإبن الجشع، وحياد «الأقربين» لنشر التقارير والمقابلات الصحيفة والأخبار، التي كنت أوافيها بها، رغم تهديدات القتل من أعدائك التي كانت تصلني بإستمرار، لأنني أخترت دربك الأخضر، من ديترويت وواشنطن ونيويورك، ومن داخلك أنت بعد إنتصار ريحانك المكربي، على قصاص شُذاد العمالات. ويشهد كذلك «عبد الباري عطوان» هذا الفارس العربي الساطع في زمن الرمادات والخيانات وطوابير المقت وحين لا فرسان، عندما واساني حين خروجي منك محزوناً ليس لي نصير يداوي جراحي الغائرة، بعدما تنكر لي المدعين من الفُرّار الذين كانوا يتمنون سقوطك لسواد خياني في نفوسهم، وها هم اليوم يتكلمون بأسمك وهم أول من رقص فرحاً لمحاولة إغتيالك الفاشلة، عندما قال لي عبر الهاتف «لا تحزن يا عبد الناصر، فلقد دافعت عن وطنك كما لو أنك كنت وكالة أنباء كاملة»، فلم استغرب قول هذا الفارس العربي الفذ، الذي لا يزال حتى هذه اللحظة، ينافح عن أمته بقلمه وصوته، في زمن الردة والخونة والعملاء والمأجورين، ولكنني إستغربت جحودك يا صنعاء تجاهي، وأنا الذي تركت ورائي أعز ما لدّي في هذه الدنيا لأجلك، أبنتي الوحيدة التي كانت في أشد الحاجة إليّ، في سبيل سطوع فجرك السبأي، وقد كان هذا واجباً وشرفاً ووساماً أضعه علي صدري، ولهذا فلم أحقد عليك أو أغضب منك يا سوسنة كل المدن، رغم تهليلك في وجه من خانك بكل النذالات، لكنني قررت بأن لا أعود إليك رغم حبي المجنون الذي يضج بين أضلعي تجاهك، إلاّ بعد أن تدعوني أنت، حتى ولو قضيت ال عمر كله في المنافي، وقد كنت أنتظر ذلك منك لكنك لم تفعلي، طيلة تسع سنوات من العذاب ومرارة الإنتظار، ومع ذلك لم أقدر على نسيانك، ولم أسمح لقلبي بذلك أبداً، بينما كنت قد نسيتيني، أو أنهم أنسوك إياي، ومنك لم أيأس، حتى سمعت الصوت واضحاً ومحباً ومصراً، على ضرورة العودة، فأدركت يا أغلى المدن، بأنك أخيراً قد تذكرتيني، فمن ذكّرك بي بعد كل هذا العمر ؟ وقد عرفت السّر، فعندما أخبرني «سعيد الشدادي» بأن الوزير هو الذي أمر بتوجيه الدعوة لي، أيقنت بأن سنوات القطيعة والتجاهل والنكران، قد ولت الى غير رجعة، فعدت يسبقني شوق جبار لا قبل لمدينة به سواك، وعدت!
اسمه خالد بن عبدالله الرويشان، قاص وشاعر مبدع، من عشّاق أرض العربية السعيدة حتى النخاع وسليل رجال صنعوا فجر سبتمبر الأغر، وأحد الفرسان الأفذاذ في الدفاع عن الوجه الحضاري المبدع لليمن الحضارة والتاريخ والإنسان، كان الوحيد الذي وقف إلى جواري يواسيني في العام 94، عندما لم يكن مسؤلاً كبيراً أو وزيراً بعد، ويشد من أزري، بعدما أنكرني الأخرون، لا أدري حتى هذه اللحظة لماذا، وكأنني ما رفعت صوتي عالياً ضد ذئاب الخيانات! دعاني خالد الصديق حين لا أصدقاء حقيقيون، ودعاني الوزير المثقف والمبدع المثابر الذي لم يغب اسمى عن ذاكرته التي لا تنسى عُشاق الأوطان، وكنت قبل ذلك قد نُسيت.
دخلت صنعاء ليلاً، كما خرجت منها ذات ليل في شتاء بعيد، وكانت المسافة بين الخروج والدخول تسع قتلات حارقة من السنين. خرجت أسياناً ومحزوناً وملتاعاً، من جور التنكر، وعدت مجللاً بكامل التقدير وبلا نسيان هذه المرة أو جحود.
في ليلتي الأولى لم أنم، وعند الساعة السادسة صباحاً، كُنت على موعد مع حبيبتي الغالية، فخرجت من الفندق الفخم والناس نيام، ولم تُعلن الساعة التاسعة ضحاً عن نفسها، إلاّ وكنت قد زرت مدينتي العالية على غفلة منها. مدينتي التي ظلت محافظة على نقائها الثمين رغم قسوة وجبروت العاديات التي مرت على وجهها، وعلى نقاء إصدقائي الحقيقيون سنيناً طوال. وعندما عُدت إلى الفندق بقليل، كان ينتظرني في صالة الإستقبال، زملاء البدايات والمواجع، محمد القعود، محمد المنصور ومحي الدين جرمة، بنفس التفاصيل والنقاء والمودة وأصالة الأعراب من سبأ، كانت ظروف رحلتي، قد حتمت عليّ الوصول الى صنعاء، قبل إنعقاد الملتقى بثلاثة أيام، كانت كافية لمفاجأة مدينتي الآسرة الحكايا والمواويل، فطفت بها من كل الزوايا كالمجنون، حتى أروي عطشاً وحشياً رافقني تسعاً شداد. في اليوم التالي لوصولي الى صنعاء، أخذني رفاقي لزيارة شمس الإبداع والحداثة في بلادي، وأعني الدكتور عبد العزيز المقالح، الذي قام واقفاً حال رؤيته لي أمامه وعانقني عناق الأب لأبنه العائد من ضياع طال، وأخذ يحادثني بكل لهفة وحنان الذي ما صدق أبداً أن يطول به العمر، حتى يرى ابنه أمامه، بعد غياب طالت سنينه، بعد ذلك ذهبت لزيارة الذي لم ينسني في مكتبه. دخلت عليه متردداً، فقد كنت قلقاً من أن تكون السلطة غيرته، أو أن بريق المنصب الكبير قد استطاع خدش معدنه الأصيل، حتى تلك اللحظة كنت لا أزال شاكاً في حقيقة الوضع الذي صرت إليه، ويحق ممن كان في ظرفي ان تتشعب به الأفكار، فقد أنكرني الذين رأوني بأم عيونهم أنافح وحيداً عن بلادي، عندما غدر بها الغادرون، فكيف سيكون وضع الذي لم يرني، وأكتفى بتصديق مشاعره النبيلة تجاهي؟ دخلت مكتب الوزير، فلم أجده إلاّ كما تركته قبل تسع سنين ماحقات، وافر الود، مشرق الإبتسامة مفتوح الذراعين لعناق طويل وصادق، وكأنني لم أفارقه إلاّ لبضعة أيام، أدركت حينها بأنني كنت في حضرة الأخ والصديق الذي لم تسطع المناصب أن تغيره، في حضرة خالد بن عبد الله الرويشان، الذي يطلقون عليه الآن وزير الثقافة والسياحة عن جدارة.
أعترف بأنني لفرط حفاوة الإستقبال، لم أرى وزيراً أمامي بقدر ما رأيت أخي أبا هشام في كامل قيافته الأخوية التي أدهشتني فحسب.
تلك المقابلة بحفاوتها الكريمة، جعلتني أطرح على نفسي سؤالاً محدداً.. مالذي يدفع بوزير مهم في دولة عربية للإهتمام بمبدع منفي عن بلاده قرابة العقد من الزمان؟
فلم أعدم الإجابة، فلولم يكن مبدعاً حقيقياً في المقام الأول يخدم وطنه بتفان منزه عن التصنع، لما أقدم على تقدير وإحترام وتكريم مبدعي هذا الوطن؟ ولأنه ابن الرويشان، فلم يكن مجاملاً لي، عندما قالها في أذني وعلى الأشهاد، وبكل صراحة ووضوح «لو لم تكن من فائدة لهذا الملتقى على أهميته سوى عودتك يا عبد الناصر ورؤيتنا لك مجدداً لكفى !!».
ألم أخبركم، لم يكن وزيراً وهو كذلك عن إستحقاق، من قابلته في مكتب وزير الثقافة والسياحة بل كان أخاً صدوقاً، لم تغير أخلاقه أو صفاته سطوة المناصب، أو ينسيه الواجب وكرم الأخلاق، أديب مثلي، ظُلم كثيراً بلا وجه حق، لو كان هناك فعلاً من يهتم بأمثالي، ويسأل عن حقيقة الرجال الذين وقفوا من أميركا في صف الوحدة عام 94 من الأساس، هل أبدو مجاملاً؟!
انه السال مشروع، لكن مالذي يمكنني قوله في حق شخص لم يعرف الكتاب اليمني قيمته الحقيقية وإهتماما به إلاّ في عهده؟
ماذا أقول عن إنسان حقيقي لم يعرف المبدع اليماني حقوقه إلاّ في حضرته ؟ أجيبوني من فضلكم رجاءً. وإن بدوت مجاملاً في قولي هذا، فهل كان زملائي المشاركين من العرب، كلهم مجاملين، عندما كتبوا في كل الصحف عن مدى تأثرهم وإعجابهم بشخصية هذا الإنسان المسل؟!!!
سألني الكثير من الزملاء والزميلات، يمانيون وعرباً، عن سر حفاوة الوزير خالد الرويشان الذي أحبوه جميعاً، بي فكنت أجيبهم بالقول «أنتم ترونه وزيراً مبدعاً ومتواضعاً ودمث الأخلاق فقط، بينما أراه كل ذلك، بالإضافة إلى كونه أخاً وصديقاً عزيزاً منذ ما يقارب العشر سنوات، وحتى قبل أن يصل الى الموقع الذي يستحقه، وهو بالتالي يحتفي كمسل بأحد مبدعي بلاده الغائب منذ دهرٍ طويل، بالإضافة إلى كونه صديق حقيقي يحتفي بصديقه العائد بعد غياب قسري طال مداه وهذا هو سر الإهتمام، وهذا هو الفرق. «لك الله يا أبا هشام». أعترف بأنني ظننت أن صنعاء أستضافتنا لقراءة الشعر ولمطارحتها المودة والغرام، خصوصاً بالنسبة لي كوني أحد أبنائها، لكنها أبت إلاّ أن ينتهي الملتقى بتكريم الشعر وفرسانه، من قبل ابن الرويشان، الذي hختتم عمله الرائع بلفتة لا تقل روعة عنه، والتي تمثلت في تكريم كل المشاركين، من نقاد وشعراء يمنيين وعرباً، لكن لحظة تكريم رائد الجيل الدكتور عبد العزيز المقالح، كانت فعلاً هي لحظة الذروة، خصوصاً ونحن الشباب نستمع لهذا العملاق الكبير التواضع والفذ والإبداع يقول في كلمته القصيرة «أعذروني أنا أبدو مرتبكاً قليلاً؟!». وهو المجدد والثائر في دروب المختلف والأجد، وأحد فرسان هذه الأمة الكبار والمخضرمين، دهشنا، أخذتنا المفاجأة لا «رتباكة المعلم»، فلم ندري بأنفسنا جميعاً إلاّ وقد وقفنا قياماً وتصفيقاً للكبير الذي يعلم أبناءه وتلامذته، في جملة قصيرة وخاطفة، معنى قيمة التواضع في أسطع صورها.
من ضمن الذكريات التي لا تنسى، ذلك الإحتفاء بشخصي المتواضع، الذي أقف أمامه بإكبار وشعور عارم بالتقدير، من قبل الأدباء اليمنين وأغلبهم أصدقاء أعزاء، لكن المثر في النفس، هو الإحتفاء بي من قبل أدباء ظهروا بعد سفري، وإن كنت أعرفهم بالأسم كوني متابع نشط لكل ما ينشر في بلادي تقريباً، إلاّ أن مودتهم التي منحوني كانت أكبر وسام أعلقه على صدري طيلة عمري.
هل سمعتم أو قرأتم للقاصة المتمكنة هدى العطاس، والشاعر وضاح اليمن الحريري، والملعون المشاكس الشاعر نبيل سبيع، الذي ذكرني نزقه وتبرمه بنفسي في البدايات، ماذا عن القاص المثقف جمال جبران بلزاك اليمن. من استمع لدوي الشاعر عمار النجار على المنصة، من قرأ للشاعر أحمد السلامي، أو انتبه لأناقته في الحديث وإبداء الاحترام الغير متكلف للأخرين وجبروته في كتابة قصيدته الخاصة، التي لا يكتبها سواه، ماذا عن جميل مفرح وهو الجميل روحاً وشعراً، وفرح الرائع سمير اليوسفي بعودتي المقتة.
ماذا عن المضئية دائماً آمال موسى وجه تونس الذي أشرق شعراً وأنوثة ورقة في سماء صنعاء التي تُشبهها.
هل تُنسى «إمرأة الصحراء» سعاد الكواري، وفرحها الطفولي بكل ما تشاهده في أرض الأجداد للمرة الأولى. لعلكم بالتأكيد سمعتم عن جنون لقمان ديركي المحبب السوري القادم من كُردية القصيدة العربية الأصل، ودهشة عبد الخميسي، وغلاسة جهاد هديب، الذي أشترط عدم التصفيق عند قرائته لقصائده. أرجوكم لا يقاطعني أحد فأنا أصر على ذكر أكبر قدر من أسماء الذين التقيت بهم من كتيبة الشعر الجديد، وليعذرني من غاب أسمه عن ذهني الموجع بالغربة والشعور القاتل بالنفي!! كان هناك أيضاً، علي الجلاوي، وطلال الطويرقي، وسعد الفريج، وزكية مال الله، وكمال ياسين، وأسكندر حبش بصمته المتأمل الذي لا يطاق، وعلي حبش، وداليا رياض، وكوالا خوري، واسحاق الهلالي، من تبقى هنا؟!
لقد أتاحت لنا صنعاء التوحد في زمن الشتات، فرصة ذهبية قد لا ندركها مرة أخرى، لأن نشعلها بقصائدنا وجنوننا المعقلن وآمالنا المتعثرة والضارية في آن. سمحت لنا صنعاء بما لن تسمح لنا به مدينة عربية، بقول ليس له مثيل، لغة، جراءة واختراقاً للتابوهات المحنطة وسقم الرتابة، وفتحت أبوابها أمامنا مثل حبيبة ملهوفة تنتظر عُشاقاً لا تعرفهم، عشاق مهووسون الى حدّ التميز وضراوة المغايرة بقول الشعر المصادر والممنوع، والنظر إليها بكل أرواحنا المتعطشة للدخول إليها والذوبان في روحها التي لا تموت، عبر حواريها وأزقتها وأسواقها، ومآذنها المغسولة بالكافور والحبهان. وناسها الطيبين الذين يحملون تعاويذها المرقومة السحر في آبار قلوبهم النابضة. اعتلينا المنصة واحداً تلو الآخر، كلاً يحمل بين يديه آلة عزفه الخاصة به، ولكن بلحن تسعيني متعدد التجارب والرؤي، موحد الجذر الواحد. سمعنا فاطمة ناعوت، وهي تهندس مفردات قصائدها بصوت منغم وحالم لا هوادة فيه، صعقنا صالح بن دربوه بقصيدته الواثقة الرتم والإيغال، وأطربنا جرجس شكري بسردياته الشعرية المتوالية المواويل. أما محمد حبيبي فقد بدا كما لو أنه يعلم القصيدة فن التقطير المصفى، وباغتنا الملعون إدريس علوش بقصيدته الطويلة جداً حتى ما بعد القيامة بقليل، في عدة أسطر، كانت فيها القصيدة المفارقة بجدارة لئيمة والذي أصيب بعدها بمس تعلقه بصنعاء وصار صنعانياً بإمتياز كزميلنا على العامري !
كان هناك عزمي عبد الوهاب، وزهرة يسري، وبهية مارديني، وعلي الحازمي، وعبد الله ثابت، ومحمد المسيري، وهدى حسين و.... و.... و...!!!
هل نسيت أحداً في هذياني الصنعاني المغفور الذنب ؟ نعم، أعترف بذلك لقصورٍ فادح في ذاكرتي، كوني آخر من يكتب عن عرس «آزال» البهي، وأيضاً لأن صنعاء أسكرتني إلى درجة نسيت فيها نفسي، لكن الذي لن أنساه، هو صعود فرسان القصيدة التسعينية من أبناء سبأ الجُدد، وهم يعزفون أساطيرهم الشعرية على الأشهاد، كما لو أنهم سلالة شعراء لا يقبلون في حضر صنعاء الريحان والمشاقر، باقل من التميز الى أقصى حدوده الممكنة.
هدى أبلان، نبيل سبيع، نادية مرعي، نبيلة الزبير، محمد المنصور، محي الدين جرمة، احمد سلامي، علي المقري، عمار النجار، وضاح الحريري، محمد عبد الوهاب الشيباني، محمد القعود، احمد الزراعي، محمد محمد اللوزي، جميل مفرح، علوان الجيلاني وغيرهم من المغامرين وصُناع الأجد في إختراقتيه الغير مسبوقة، والذين أتمنى عفوهم لتعثر ذاكرتي عن عدم ذكر أسمائهم جميعاً وهم في القلب.
ووحدها صنعاء كانت الشاهدة على كل ما حدث وما قيل وشد الأنظار، مرت الأيام سريعاً كالحلم، وربما كنت قد نسيت أسماءً وأحداثاً ومصادفات، لكن الذي لا ينسى ولن أنساه، هو صوت الوزير والأخ والصديق خالد الرويشان قي أذني ليلة سفري باتجاه أقصى ما في الغرب من غرب، وكأنه كُتب عليّ أن لا أغادر صنعاء إلاّ ليلاً، وهو يقول عندما هاتفته مودعاً وشاكراً وعميق الإمتنان.
«يا أسفاه عبد الناصر، ها أنك تغادر بهذه السرعة، دون ان نقدم الواجب المفروض علينا؟!!. خاطبني وكأنه لم يقم بما هو فوق الواجب، مع أنه غمرني بكل إهتمامه ورعايته منذ وصولي وحتى يوم سفري، ولهذا فلم استغرب تأثر كل الزملاء العرب بشخصية هذا الإنسان، وذهولهم لبساطته وتواضعه القدير بتقربه منهم كما لو أنه زميل مشارك معهم وليس قائد ومنفذ المهرجان، أدهشتهم روحه، هذا اليماني الدائم الإبتسام عن محبة، والصارم في عمله والذي لا ينسى أحد، وكأنه يعرفهم جميعاً منذ زمن بعيد فكيف بي وأنا الذي عرفته شخصياً وعن قرب، ماذا أقول؟!!
أنتهى العُرس اليماني، وغادر ضيوفه العرب كلاً الى وطنه، إلاّ أنا من كتب عليه مغادرة وطنه، وكأن لا وطن لي يدعوني إليه، أنتهى كل شيء كالحلم السريع وحزمت حقائب العودة إستعداداً للإقلاع بإتجاه المجهول مرة ثانية، وذات ليل لا أريد أن أتذكره، أتت سيارة الضيافة وأخذتني الى المطار، حزيناً لا أود الرحيل.
في غرفتي وأنا أعد نفسي للسفر، أخذت أحدث مدينتي بيني وبين نفسي لا يسمعني أحد ....
والآن فها قد أذن الوقت يا صنعاء لمغادرتك مرة ثالثة مرغماً كما في كل مرة، فلم أعد ذلك الفتى الصغير الذي غادرك أول اليفاعة، لقد كُبرت بأحزاني، ومزقتني أنياب الغربة دون شفقة أو رحمة، علاوة على أن لي أبنة صغيرة تنتظرني بفارغ الصبر وراء المحيط، وهي التي قالت لي يوم تحليقي باتجاهك يا حبيبتي القاسية الحنان «عُد سريعاً يا أبي فا أنا لا أستطيع فراقك !».
هل كنت موفقاً، عندما سطرت ذات يوم بعيد، في قلب قصيدة منسية قائلاً «الأهل هم الوطن؟!»، الآن أدرك بأن «هناء» هي وطني الذي لا يجب أن أغادر إلاّ به وفي صحبته، لكن مع ذلك يبقى الوطن الأعز عليّ من نفسي ومنها، هو اليمن ووجه صنعاء وإشراقة شمس سبأ على وجهها كل صباح.
وها قد عُدت إلى منفاي، لكن العزاء يظل في الإيمان باستمرارية إنطلاق المُهر اليماني سليماً ومعافى في دروب المستقبل المرتقب، ويظل العزاء في أنني لن أنسى ما حييت مدينة الأساطير ومعشوقة، الروح صنعاء، لكن ما يحز في النفس هو هذا السال الموجع، «لكن مالذي يضمن لي بأن صنعاء لن تنساني كما حدث في المرة السابقة ؟!!».
شكراً خالد الرويشان على دعوتك إياي، لزيارة كل الوطن دفعة واحدة، بعد طول جحود ونسيان، فلم يكن غيرك ليفعلها، على الرغم بأن النكرات رأوني وسمعوني أدافع عن هذا الوطن بعمري حينما جبنوا، وعندما وصلوا في الظلام إلى حيث لا يستحقون بالزيف والكذب وسرقة جهود الآخرين، تعمدوا عن قصد، محو أسمى من سجل الوطن الذي خذلوه بخوفهم، ونصرته كواجب علي بقلمي وصوتي حين تواروا شامتين، وحين عز النصير.
شكراً صنعاء على بهائك الأزلي، الذي لا تقدر على خدشه ربقة الأحداث الجسام، وعدوانية الوقائع وجبن رجال الخوف والخيانة
شكراً
شكراً
يا أكرم المدن وأعرقها، على عنفوان نبضك السبأ الذي لا يموت.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.