مع بدأ جولة جديدة للفيروس الشقي كرونا يتعالى الضجيج هنا وهناك، في مختلف بلدان العالم، وتبدأ وسائل الإعلام في تكرار المكرّر، وتنشط مناجل الموت في حشد ضحايا هذا الوباء المخادع أرقاما مذهلة، تتكشف كل يوم عن اتساع رقعة الموت، حتى لكأن العالم أجمعه يصيح بشاغب واحد: الموت الموت.. ولا شيء غير الموت. في اليمن يختلف الوضع تماما، فلا حديث عن هذا المرض القاتل إلا في بعض وسائل الإعلام، التي أعلنت أن الحالات الموبوءة التي تم اكتشافها تجاوزت الألفي حالة، وهو رقم قاصر ليس له صلة بالواقع، ذلك أن أضعاف هذا الرقم من المرضى الموبوئين لم تصل إليها جهود المعنيين باكتشاف الوباء ورصد تحركاته، لأنهم اكتفوا بالبقاء في أبواب المشافي، ولم يتجاوزوها إلى غيرها، مقتنعين تمام الاقتناع بأن زمن الاكتشافات قد ولّى، وأن ما بأيديهم من أرقام تكفي لإسكات الجهات المسئولة والجهات الممولة على حد سواء. وفي البعض ما يغني الكسولِ عن الكلِّ.. كما قال أحد الشعراء الكسالى. عموم الناس لا يعنيهم الحديث عن كورونا، لا من قريب ولا من بعيد، لقناعتهم التي لا يشوبها شك بأنهم أصبحوا جسرا تعبر عليه الأوبئة المختلفة، فقد سلختهم قبلا حمى الوادي المتصدع، وطحنتهم الملاريا، وعجنتهم الكوليرا، وشوتهم حمى الضنك، وقلاهم المكرفس، فما عليه كرونا لو الْتهم منهم ما يشبع نهمه وانصرف، مفسحا المجال لأمراض أخرى ستظهر بعده تباعا، وسيكون لها منهم نصيبٌ غير منقوص. وحالات اللامبالاة هذه لا تنم عن انعدام الحس وموت الشعور لدى عامة الناس، ولكنها حالة طبيعية لمن شغلتهم عن هذه الأوبئة داهية دهياء، قلبت حياتهم رأسا على عقب، وأصبحت كل المصائب دونها أمرا جللا. إنها داهية الحرب التي يعيشها الناس كل الناس.. قتلا ونزوحا وجوعا وتشريدا.. وخوفا واضطرابا وقلقا أمام غولٍ جشعٍ لم تستفد منه غير المقابر النهمة. والتجار القتلة من أمراء الحروب الذين يستثمرون القتل من مواقعهم المختلفة أرصدة ساخنة.. فيشبعون بتجويعنا.. ويثرون بإفقارنا.. وتتسع لهم الحياة كلما ضاقت بما تبقى من جثثنا مقابرنا المنهكة. إن هؤلاء هم وباؤنا القاتل، وفيروسنا المدمّر، وجائحتنا التي لا تبقي ولا تذر.. جائحة لا ينفع معها صابون، ولا تنجي منها كمامة.. وكلما زادت العزلة بين الناس توقيا لها؛ انتفشت وتمدّدت من الأفق.. إلى الأفق. هم وحدهم لا غير..