ليس غير الموت.. كالليل المظلم يرخي سدوله في كل الجهات، ويكشف لنا بين الفينة والأخرى عن ضحايا جدد، يتساقطون تحت سنابكه فوجا إثر آخر، يُنسي اللاحقُ منها السابق، فتتحجر الدموع في المآقي هولا، وتتوقف القلوب عن اجتراح مشاعر الفقد من شدة الفقد، في صورة تراجيدية قاهرة ذابحة، رسمها قبلا شاعر اليمن الكبير الراحل عبدالله البردوني في طقوس للموت مشابهة قائلا: فوج يموتُ فننساهُ بأربعةٍ فلم يدع أحدا يبكي على أحدِ نعم.. هاهو الموت يقف ملء الأفق.. وهاهي ذي ضرباته الموجعة تستبيح كل من ندخرهم ثروة حقيقية لا لليمن فقط.. ولكن لعموم الإنسانية. اليوم مات الدكتور خالد نشوان.. الطبيب الذي تلألأت شمسه في الأفق الإنساني، مؤكدة على أن اليمن ليس محضنا للإرهاب كما يصوره الحاقدون والمأزومون، ولكنه مخزون هائل لكل ما يفرح الإنسانية، ويساهم في ترشيدها وتفوقها فكرا وعلما وفنا وأدبا وقيما وأخلاقا.. مات نشوان في مهجره الاختياري موتا إجباريا، بعيدا عن وطن حمله معه شوقا يبدد هجير الاغتراب، وأملا يزيل عنه وعثاء الأسفار ووحشة الفراق.. وطن يسبح في دمه وجودا، وفي قلمه انتماء، وفي إنجازاته سُلّما كلما صعد منه درجة أغراه بالاستمرارة صعودا. ولد الراحل نشوان في مدينة صنعاء عام 1970 وفيها درس مراحل التعليم النظامية، ثم ابتعث إلى المجر لدراسة الطب، فحصل على درجة الدكتوراه في الجراحة الدقيقة، ولتفوقه وتميّزه عُيّن هناك عضوا في أكاديمية العلوم الطبية، فرئيسا للعلاقات الخارجية لشئون الشرق الأوسط، وعمل إلى جانب ذلك جراحا في عدد من المشافي الأوربية، فلمع نجمه، خاصة بعد أن أنجز عددا من الاختراعات العلمية في المجال الطبي، فحصد عددا من الجوائز والشهادات العلمية الأوربية. مالا يعرفه الكثير عن نشوان أنه كان باحثا، وشاعرا مجيدا، وقد صدرت له مجموعة شعرية باللغة المجرية بعنوان أتيت من أرض ملكة سبأ، حصل بموجبها على جائزة الأدب المجري، وقام إلى جانب ذلك بتحقيق عدد من الكتب اليمنية والعربية. من شعره المترجم عن المجرية قصيدة (عندما تنطفئ الشموع)، يقول في مقطع منها، وكأنه يرسم طقوس رحيل مبكر: أقذف بروحي وراء الخيوط الذابلة فيلمع فيها شعاع شمس الغروب لكنني هناك حيث الظلام أتشبّث بنقطة ضوء وبصيص حلم غارق في غيبوبته وراء الدموع اليانعة تختفي شمس الشروق ويلوح الفجر من وراء السطور لكنها غاضبة غارقة حائرة.