بالأمس في محادثاتنا اليومية مع أصدقائي المقربين بعث وجدت في المجموعة مقطوعة منوعة على ساوند كلاود ما بين الشعر والأغاني والآيات والمواويل تجميع عن المخاوف من كل بستان زهرة، أنا لا أتفق مع صديقي الحسام في الاختيارات الغنائية، وهذا شيء طبيعي، بس قلت اسمعها، فسمعت من ضمنها مقطوعة شدتني: "أهْوَ ذَنْبُكَ أنكَ يوماً وُلِدتَ بتلكَ البلاد؟ ثلاثةَ أرباعِ قَرنٍ وما زِلتَ تدْفَعُ من دمِكَ النَّزْرِ تلكَ الضريبةَ: أنكَ يوماً وُلِدتَ بتلك البلاد" فبحثت عنها فكانت قصيدة للشاعر العربي سعدي يوسف والتي تحمل عنوان "حفيدُ امريءِ القيسِ" كلمات مليئة بالوجع والغربة والبعد والنكران والهجر والبراءة ومحاولة الهروب والحنين والشوق واللعنة والرفض التام لواقع لا يرضى عنه سوى الانصاف والأرباع وما أكل السبع، كتبها سعدي يوسف في 2005 من مهجره في لندن. وضعت القصيدة بعنوانها والذي كان عنواناً لأحد دواوينه على صفحتي في فيس بوك، مكتفياً بقراءتها أنا ومن يريد من الأصدقاء، كما أرسلتها لاثنين من الخواص، وهذا ليس المهم، المهم أني اليوم فوجئت وجمهوره بوفاته بعد تسعة عقود مليئة بالكفاح والحرية والغضب. أرسلت لعلي صاحبك اللي تحدثنا عنه بالأمس مات، مات بحزنه اليمني.
لم يأت اختياره رحمه الله لوصف حاله وتسمية ديوانه "حفيدُ امريءِ القيسِ" من فراغ، فكل أحفاد امريءِ القيسِ يبحثون عن أوطانهم في المنافي بعد أن ضاقت بهم الديار؛ فلسطين ولبنان والعراق وسوريا وموطنهم الأول اليمن. كنت فيما مضى وأنا أستمع لألحان العراق وفيها مرارة طعم الحزن، أشك أن هذا الحزن قد استوردته العراق من البوذيين في بلاد السند والهند، وقلت ربما من كربلاء، لكن سعدي يوسف يذهب إلى أن هذا الحزن يمتد إلى امرئ القيس أشعر العرب، والذي عاش ابنا لملك اليمن -تمتد اليمن من نجد إلى حضرموت- وبغرض إعادة إصلاحه أرسله والده إلى دمون في حضرموت، لكنه لم يتغير ولم يشعر بعزه الذي كان إلا بعد مقتل والده على أيدي الأعراب، فقال قولته المشهورة "رحم الله أبي، ضيعني صغيراً، وحملني دمه كبيراً" وهي مأساة عربية متكررة فكل جيل يعيش مترفاً يضيع ويضيع وطنه، إذ يعيث مترفي السياسية فساداً بالبلاد ويعيث مترفي الابتعاد عنها أنواعاً من الفساد المتعدد؛ يبدأ من اللهو، وينتهي بالبعد عن الواقع. انتماء سعدي يوسف لامرئ القيس انتماءً حقيقياً، وليس فقط جينياً، ولكنه انتماء للشعر والحال في ضياع الوطن وضياع العمر والعودة إلى حضرموت الموطن الأصلي، والتسلي بالرَّاح للهروب من الواقع، والانتماء لمدرسة أول الشعراء هو أيضاً نوع من الفخر في الانتماء للشعر ذاته واللغة والوطن والهوية، حتى لو حمل جواز سفر بريطاني وتعددت هوياته بعدد تنقلاته إلا أن الانتماء للعروبة للغة الشعر وللشعر من أولى مدارسه. بعد مغادرته العراق في سبعينيات القرن الماضي استقر في عدن حيث يوجد النظام الشيوعي الذي طالما حلم به الشيوعي الأخير كما يصف نفسه، فالشيوعية عند سعدي يوسف هي اللاطبقية والعدالة والمساواة، وهو يرى أن "الشيوعية مفهوم أكثر من كونها ممارسة فعلية. هي حلم بمجتمع العدالة والمساواة، بمجتمع لا طبقي. والعودة إلى الحلم أساس التطورات الكبرى في حياة الإنسانية".
جنة عدن لم تدم طويلاً لسعدي يوسف فغادرها في 1986م عندما أثبت شيوعيها أنهم ليسوا كما يدعون. وكما لم يكن راضياً عن نظام البعث في العراق كرجل ينحاز للمقهورين لم يقبل احتلال العراق، وانتقد دول الاحتلال، كما انتقد السلطة الطائفية في بغداد والتي تشبه سلطة الحوثي في صنعاء، فالمبادئ عنده لا تتجزأ ولا انتماء للكبار مثل سعدي يوسف سوى للإنسانية؛ لا طائفية ولا عرقية ولا سواها من الادعاءات. لقد ثار مؤخراً الضجيج في بغداد بسبب رغبة وزير الثقافة بمساعدة سعدي يوسف لمواجهة ظروف مرضه الأخير، لا يمكن لنظام طائفي أن يهتم بشاعر أو أديب أو مفكر فكل الأنظمة الطائفية تهتم بالبهلوانات ومن يسبحون بحمدها، ومن الجيد أن التاريخ لم يدون فضل الطائفية او مساعدتها للقديس سعدي يوسف.
تغنى بعدنوحضرموت ووصفهما بأشعاره، في قصيدته الأحفاد يقول: "يتقاسمُ الأحفادُ مملكةً مُخرّبةً، ويستهدون بالسقَطاتِ. ساحلُ حضرموتَ يمرُّ في النجمِ الذي يتداولونَ مخَبّأً. والجَدُّ مرتسمٌ على راحاتِهم خطّاً من التيزاب" وصف فيها حضرموت والسفن والنخل والبحر والنساء القصيرات صغيرات الأقدام وصف حفيد عاشق يرسم لوحات الدهشة في مدينة الدهشة الأولى حضرموت، ونجده في هذه القصيدة الحضرمية غاص في التفاصيل الحضرمية إلى أبعد مدى، بينما في قصيدته "عدن أيضاً" يتراجع عن اندفاعه في الوصف بإيقاعات أخف من تلك التي في قصيدة الأحفاد، "إني قطعتُ الكونَ من أقصاهُ، كي آتي إليكم يا رفاقي، فَلْتُفيقوا لحظةً، إني أتيتُ لكم بماءٍ سائغٍ من رأسِ رضوى، جئتُكُم بالرايةِ الحمراءِ، رايتِكُم سأحملُها، وإنْ وهنتْ ذراعي ..." .
بكائيات الجد أمرئ القيس انعكست على الحفيد سعدي يوسف في قصائده وحزنه ومفارقة دياره، وفي فقده لما مضى من عمره وصباه ومقارنته بخاتمته منفياً، فالجد بكاء وقافاً على الأطلال متغزلا بالحسان كثير الوصف معطيا للقصيدة معناها الواقعي المرتبط بعصره، هارباً بالشعر من مواقع النزال الشهيرة إلى مواقع العشق المثيرة، كان شعره إنسانياً بلا تكلف ينحر ناقته للعذارى ليسجلها التاريخ وحدها وكأن بني جنسهن لم يكرمن بمثلها من ذبيحة عظيمة، وتأتي قصائد الحفيد غير متكلفة فهو "الأب الروحي لقصيدة النثر العربية، وقد قدم القصيدة الموزونة في هيئة تبدو أنها غير موزونة، فالوزن عنده ليس الحدّ الفاصل بين قصيدة النثر وغيرها من الأشكال الأدبية، بل هو عامل من العوامل، الوصول إلى الشعرية هو الأهم" .