سعى الملأ من قريش إلى ألا يستجيب أحد من أهلي و بَنِيّ للنور الذي عمّ أرجائي، و مضوا يحاربون الرسول الكريم ، و يتعامون عن الحق المبين. ما أتعس الملأ و هم يتعامون عن الحق، و يَخْنسون عن صحيح المواقف ، متمسكين بأوهام صَدّقت بها مصالحهم، و تعلقت بها قلوبهم. لكنها المنفعة الحقيرة التي تتضخم حتى تسد أمام ناظري صاحبها الأفق، فيرى فُتات المنفعة و قد تكاثر، و تعملق، حتى غَيّب العقل، و الكرامة، و الحق، و النبل، و الدين، و غدا يَتكفّف الطغيان الظاهر و الخفي، و إذا هو قد باع كل خير، و تنكر لكل موقف، و خسر الدنيا و الآخرة،و ذلك هو الخسران المبين.
غادرني الركب الكريم المهاجر بسلام و عافية، و اكْفَهرّ الجو في سمائي، و أجدبت شِعابي ، و عاد الوادي وادٍ غير ذي زرع و لا نور . فقد حل النور هناك في يثرب، و أينع الزرع في المدينةالمنورة.
تأمّلتُ في وجوه الملأ و هم يَخطُرون في أنحائي لَعَلّي أجد في وجوههم ما أَقرأ به حقيقتهم بعد أن هاجر النبي الكريم و الضياء المبين، فلم أجد فيها إلا الخيبة تكسوها، و الانكسار يعصف بها،و القلق من أن الدين الحق قد صارت له حاضنة و أنصارا في يثرب.
الملأ الذين تتحكم فيهم الأنانية، و المصالح الذاتية، يَتقزّمون ؛ لأنهم يُعادون، و يُخاصمون عمقهم الزماني و المكاني، و يتنكرون لِسرِّ قوتهم، و رسالتهم، و فضّلوا اللّهثَ خلف سراب يحسبه عبد الشهوات ماء.
مضت الأيام، و هالني ذات صباح و ضمضم بن عمرو الغفاري رسول أبي سفيان إلى قريش يُوَلْول، و يستصرخ ؛ قد جَدع أنف بعيره، و حَوّل رَحْلَه، و كشف عن سَوْأته مبالغا في الإثارة، و هو يصيح: اللطيمة.. اللطيمة.. لقد اعترض محمد و أصحابه قافلتكم.
و أعلنت قريش النفير و بالغت في الاستنفار لتستأصل بزعمها محمدا و أصحابه.. و خرجت قريش بقضها و قضيضها لقتال محمد.
و اشتد بي القلق ،و قد خرجت قريش بذلك الجيش الكبير، فيما نقلت إلينا الأخبار،أن الرسول الكريم إنما كان قد خرج بثلاثمائة من أصحابه، مواجهة غير متكافئة، إلا أنه لم يمض وقت طويل حتى كانت فلول قريش تعود مهزومة، و إذا بالملأ المتغطرس قد صاروا بين قتيل و أسير بيد المسلمين في بدر.
و أشد ما أثار استغرابي في أحد الأيام ؛ حين طرق أبوابي أكثر من عشرين يهوديا، من ملأ يهود، و زعمائهم، و كان على رأسهم أشقاهم : حُيي بن أخطب؛ فقد غدر يهود و مكروا في المدينةالمنورة فقاتلهم الرسول و أجلاهم عنها، فتجمّع حقدهم ، و جاؤوا إلى قريش يحرضونها على غزو المدينة، و يَعِدون أهلها انهم سيكونون معهم، و أنهم قد ضمو إليهم قبائل عربية كثيرة، ستكون معهم في الغزو، منها : غطفان، و فزارة، وأسد.. و غيرها.
و عجبت كيف يستجيب العربي لليهود على بغيهم و مكرهم، و حقدهم ، وكيف يجيزون لأنفسهم أن يقاتلوا عربا جنبا إلى جنب مع يهود . لكنها المواقف التي تجهل الحقيقة ، و تفقد الصّواب، و تفتقر إلى رُشد العقيدة.
و ما هي إلا أيام حتى رجعت قريش من غزوة الأحزاب منكسرة مدحورة.
و كان أعز أيامي و أعظمها و أجملها ؛ حينما عاد الركب المهاجر قبل ثماني سنوات فاتحا، فهاهو ذا قد وصل أطرافي للفتح الأعظم.
و دخل الرسول على ناقته متضرعا، مبتهلا، متبتلا، شاكرا لأنعم الله، و نصر الله و الفتح. و غرقتُ في تفكير، و ذكريات، و الملأ من قريش يطاردون المسلمين ، و يلاحقونهم بالأذى، ثُم و النبي يغادرني مهاجرا، و الملأ من قريش يذرعون أنحائي جيئة و ذهابا ؛ كيف أفلت منهم محمدا ؟ و لم أفق من ذكرياتي إلا على صوت تَحَطُّم الأصنام، و تطهير البيت من الأوثان ..!! و رحت من جديد في تفكير أعمق.. كيف أصبحت تلك النبتة الأولى : " إقرأ " و التي حاربتها قريش بكل شراسة بهذه القوة ، و العظمة، و الاقتدار.
إنها العقيدة الحقة، التي تنشئ أجيالا صادقة ، تُطَوّع المستحيل، و تهزم المشاق، و تستعصي على الصعاب، فحيث الصبر و العمل ، يكون النصر، و الفتح المبين.
و مرة أخرى يعود إليَّ الرسول الكريم، في حجة الوداع تَحفّه، و تحيط به الألوف المؤلفة، في مشهد مهيب، لم أعرفه من قبل، و لا عرفَت مثله الجزيرة العربية كلها.
و ياله من موقف رهيب و قد وقف الرسول صلى الله عليه وسلم على صعيد عرفات ، يُوْدِع سمع المكان و الزمان ، و الإنسان إرشاداته الغالية، و وصاياه الخالصة.. ثم يختمها بسؤال ألقاه سمع الكون كله، و الحاضر و المستقبل : ألا هل بلّغت؟ فيردد حشد عرفات جميعهم : نشهد أنك بلّغتَ، و أدّيتَ، و نصحت.. فيردد السؤال ثلاثا، و يكررون الشهادة ثلاثا؛ فيقول: اللهم فاشهد.
و تذكرتُ يوم أن جمع الرسول قريشا أول مرة ليبلغهم دعوته، حين ناداهم : وا صباحاه ! و أخبرهم أنه نذير لهم ، فقال قائلهم : تبا لك، ألهذا جمعتنا؟!
و رحتُ أبحث عن رجال شهدوا ذلك اليوم، فإذا هناك الكثير ممن حضروه ؛ رأيت أباسفيان، و سهيل بن عمرو، و الحارث بن هشام .. و آخرين كثير، ممن كان لسان حالهم و مقالهم ، و موقفهم، هو: تبا لك ! لكنهم اليوم قد تبدلت قناعاتهم، و ها هم ممن يشهدون أن الرسول بلّغ، و أدّى، و نصح.
إنه الصبر، و العمل المتواصل، و الأرقام الصحيحة التي لا يعتريها خوف، و لا يرتهنها طمع، و لا تبدل تبديلا.