لثلاثة عقود مضت ظل جزء كبير من جيشنا اليمني شبه مُغَيب عن واجبه الوطني ومهمته الأساسية المتمثلة في حماية مصالح الشعب والوطن. متفرغاً في الوقت ذاته لحماية مصالح ضيقة وأنانية لأسرة وأفراد نصّبوا أنفسهم رموزاً وجعلوا من ذواتهم ثوابت وطنية, واختزلوا الوطن وثورتيه العظيمتين (سبتمبر وأكتوبر) في شخوصهم. كان ذلك الجزء المهم من جيشنا قد غدا جيشاً عائلياً, وعلى هذا الأساس جرت تنشئته وتأسيس بنيته. قد يبدو الأمر مبالغاً فيه, لكن لو عقدنا مقارنة بسيطة بين ثورة 25 يناير في مصر وثورة 11 فبراير في اليمن, لوجدنا الفرق واضحاً بين جيشي البلدين, ويعكس بجلاء حقيقة ما ذكرناه آنفا. فخلال 18 يوماً فقط تنحى الرئيس مبارك عن منصبه وتوارى جانباً, لأن الجيش المصري لم يكن جيش مبارك أو أبناء مبارك, كان جيش مصر وشعبها, وبالتالي لم يكن المصريون في وادي استعادة الجيش أو تحييده, فتلك قضية منتهية بالنسبة لهم. فيما نحن في اليمن احتجنا إلى قرابة عامين كي نستيعد جيشنا من قبضة العائلة إلى حضن الوطن والشرعية. وضع الجيش غير الطبيعي في بلدنا منح علي صالح وعائلته فرصة التسلط على رقابنا طيلة الفترة الماضية, وأرجأ قطف ثمار الثورة. تأملوا كيف أن ثورة مصر حسمت أمرها مع مبارك في 18 يوماً فقط, بينما نحن بالكاد صرنا قاب قوسين من الحسم النهائي (مع صالح), ولكن بعد عامين على الثورة, نتيجة ماذكرناه من أن العائلة أختطفت جزءاً كبيراً من الجيش وجعلته حقاً حصرياً لها, وسخّرته لخدمة مصالحها. على كل حال, استطاع الرئيس هادي, وبمساندة كبيرة داخلية وخارجية, انتزاع سلطاته كرئيس جمهورية وقائد أعلى للقوات المسلحة, وتحرك خطوة كبيرة للأمام نحو استعادة الجيش وتحريره من قبضة العائلة, كمقدمة ضرورية ومهمة على طريق استعادة الوطن المختطف من عصابة استباحته لنفسها وحوّلته إلى غنيمة ومِلكيه خاصة. الأمر لم يكن سهلاً بالتأكيد في ظل وضع قلق ومتفجر في آن. فانتزاع الجيش وإعادة بنائه وفق رؤى وطنية صرفة, بمعزل عن التأثيرات الحزبية والجهوية والطائفية, مهمة شاقة ولاشك, وعمل وطني بحاجة لمعاضدة الأطراف السياسية كافة. بيد أن الادعاء أن مشروع الهيكلة يجيء ضمن مخطط أمريكي للسيطرة على الجيش, ووضع البلد تحت وصايتهم واحتلالهم, هو أمر مجافٍ للحقيقة بل ويتلاعب بها, ويهدف لركوب موجة العداء الشعبي للأمريكان بغية التكسّب السياسي وتسويق جماعات العنف تحت لافتة الممانعة والتصدي لقوى الاستكبار العالمي, عبر استمالة الشارع الثائر واستثارته وتوجيهه ضد الرئيس والقوى السياسية بدعوى ارتهانهم للقرار الأمريكي, وصولاً لتقويض جهود نقل السلطة, والإبقاء على الوضع الراهن في حالة فوضى عائمة تستبطن صراعات تبقيه ملتهباً وقابل للتفجر في أية لحظة. جماعات العنف المسلحة هذه, تقامر بمستقبلها من خلال استعدائها المجتمع الدولي, واستعجالها دخول معركتها الخطأ في التوقيت الخطأ. هي تحاول انتحال دور الثائر للاستفراد بقيادة الثورة وتوجيه مسارها, وتصوّر الأمر كما لو أن المعارضة (المشترك) تخلت عن الثورة وباعت قضيتها لخطب ودّ الأمريكان, معتقدة- أي جماعات العنف المسلحة- أنها بذلك تكسب الشارع وتسوقه ورائها, جاعلة من نفسها ناطقاً رسمياً, وممثلاً حصرياً للثورة الشبابية, فيما المشترك وهادي متآمرون مع الأمريكان!! هذا ما تحاول قوله. ومعلوم أن توحيد الجيش يكرس من حالة الاستقرار وسيادة الدولة, ويقلل من فرص الاحتراب والتناحر, بما في ذلك نشوء جيوب متمردة هنا أو هناك. علاوة على أن توحيد الجيش تحت قيادة الرئيس هادي يؤذن بإفول نجم صالح وعائلته ورفع أيديهم بشكل نهائي عن البلد. وما يثير الدهشة أن من يطالبون بضرورة إسقاط بقايا العائلة ورموز النظام السابق لاستكمال أهداف الثورة, هم من يرفض اليوم عملية هيكلة الجيش وتوحيده!! ولا ندري كيف سيتم إسقاط بقايا العائلة مع احتفاظ بعضهم بقوات كبيرة من ألوية الجيش ومعداته العسكرية؟! ويثير العجب قول أحدهم " أن ما نقوم به (الهيكلة) ليس أكثر من لعبة نتسلى بها, تجزعة (تمضية) للوقت وإرضاء لهذا أو ذاك من حمران العيون. مضيفاً: إذا كنا جادين في بناء دولة مدنية حديثة تحقق آمال الشعب في التطور والتقدم والرخاء، فإن مكان النقاش في موضوع الجيش هو في لجنة الحوار". مختتما بالقول: إن معالجة قضية الجيش خارج لجنة الحوار، وبعيداً عن كل القوى السياسية، وبعيداً عن موضوع الدولة المدنية الديمقراطية العادلة، هو جهد ضائع ومشكوك في دوافعه!! ولا أدري كيف غدا توحيد الجيش وإنهاء إنقسامه وإعادة هيكلته لعبة نتسلى بها, وجهد ضائع مشكوك في دوافعه, وهو أحد مطالب الثوار ومن صميم أهداف الثورة الشعبية, بل وأحد مضامين المبادرة وآليتها التنفيذية التي وقّعت عليها كافة الأحزاب السياسية!!! ويعلم صاحبنا هذا أن الآلية التنفيذية للمبادرة نصت صراحة على مسألة هيكلة القوات المسلحة والأمن في المرحلة الأولى والثانية من الفترة الإنتقالية, وبالتالي فقضية الهيكلة هي قضية وطنية وليست مؤامرة سياسية حتى نشكك في دوافعها. وهي فوق ذلك تتم طبقاً لما تم الاتفاق عليه بين أطراف التسوية السياسية الموقعة على اتفاق نقل السلطة. أوليست الهيكلة جزءاً من عملية نقل السلطة؟ وهي قبل ذلك حق أصيل للشعب يجنبه الكوارث, إذ من حق الشعب على قيادته أن تعمل على تحييد الجيش, ومنع استخدامه في الصراعات السياسية من قبل الأطراف المتنافسة. من حق الشعب أن يطمئن إلى أن الجيش لن يُسلط عليه لقهره وقمع حريته. من حقه أن يطمئن إلى أن الجيش يحمي خياراته ويستجيب لمطالبه, وأنه لن يكون أداة بطش بيد فرد أو عائلة أو قبيلة أو حزب. ولا ندري لمَ يغضب البعض عندما يجري العمل على إخراج الجيش من ساحة الفرد والعائلة إلى ساحة الشعب ومؤسسات الدولة الشرعية والدستورية التي صار يمثلها النظام السياسي الجديد الذي ارتضيناه جميعاً عبر صندوق الاقتراع؟ هل كان مطلوباً من الرئيس هادي أن يُبقي أقارب صالح على قمة هرم الجيش ليبرهن على وطنيته وينفي عن نفسه تهمة التآمر مع الأمريكان على المؤسسة العسكرية؟ هل كان يُفترض به أن يأخذ الإذن من هذا الحزب أو ذاك, أو من هذه الجماعة أو تلك, قبل أن يُقدم على اتخاذ قرار سيادي هو من صميم سلطاته كرئيس منتخب؟ ومرة أخرى نؤكد على أن الآلية التنفيذية للمبادرة لم تسند قضية هيكلة الجيش إلى مؤتمر الحوار الوطني, بل جعلتها من اختصاص رئيس الجمهورية. فلماذا يتم منازعته الآن في أمر كهذا وقد أجمع الداخل والخارج على إسناد مثل هذا الأمر إليه؟ الشارع اليوم, وعلى وجه الخصوص شباب الثورة, يطالبون بما هو أبعد من هيكلة الجيش وإقصاء رموز العائلة, يطالبون بمحاكمة هؤلاء وتقديمهم للعدالة لينالوا جزاء جرائمهم, ليس بحق الثورة وحسب, بل وبحق الشعب طيلة 33 عاماً. يطالبون باستعادة أموال الشعب المنهوبة, فالحصانة لا تعني الإقرار لهؤلاء اللصوص بما في أيديهم. أما المستاءون من قرارات هيكلة الجيش فهم حتماً يُضمرون شراً لهذا البلد, وإلاّ لما وقفوا ضد إرادة الشعب وتطلعاته في بلد آمن ومستقر. [email protected]