يقول الله تبارك وتعالى: (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ) (القصص:68). فالله وحده هو المتفرد بالخلق والمتفرد بالاختيار، فهو يخلق مايشاء، ويختار من خلقه مايشاء اختياره، وهو اختيار اجتباء (اصطفاء)، واجتباء الله واصطفاؤه لمخلوق من مخلوقاته تشريف له وتكريم، وهو تشريف وتكريم لأنه صادر عن رب العزة والجلال سبحانه وتعالى. وقد خص سبحانه وتعالى باجتبائه واصطفائه من الأشخاص والأزمنة والأمكنة ما يعلم سبحانه أنه أهل لذلك، فاصطفى من الناس أنبياءه ورسله –عليهم الصلاة والسلام- واصطفى من أنبيائه ورسله أولي العزم من رسله –عليهم الصلاة والسلام- واصطفى منهم خاتم الأنبياء والمرسلين محمد –صلى الله عليه وسلم- الذي أرسله رحمة للعالمين،واختار من الأيام يوم النحر ويوم عرفة ويوم الجمعة، واختار من الأشهر شهر رمضان وخصه بخصائص ترفعه على غيره من أشهر العام وتمنيزه عنها، وجعله حافلاً بالخيرات وأسباب سعادتنا وفلاحنا في حياتنا الأولى والآخرة، فهو شهر القرآن الهادي لمن اتبعه إلى سبل السلام، ومخرجه من الظلمات إلى النور، وحفظ له إنسانيته، وأحيى فيه معانيها وخصائصها، وارتقى به في مراتب كماله العقلي والوجداني والنفسي والسلوكي، وهو شهر التوبة والغفران جعله الله محطة نتطهر فيها من كل ما علق بأنفسنا من أدران، ونداوي فيها أمراضنا ونعالج ضعفها ونتخلص من عيوبها، ونخلصها من الآثام الظاهرة والباطنة، ونغسل فيه معاني التقوى وحقيقتها في قلوبنا ونعززها ونرسخها، وهو شهر الرحمة والمغفرة والعتق من النار – تفتح فيه أبواب الجنة وتوصد فيه أبواب النار وتصفد فيه مردة الشياطين، ليكن إقبالنا على الله فيه بالطاعات والقربات والأعمال الصالحات أكبر وأكثر، وهو شهر تضاعف فيه الحسنات فنتضاعف فيه بواعث الإقبال على الله بالطاعات والاستقامة على صراطه المستقيم علماً وعملاً باطناً وظاهراً، وتصدع بذلك أنوار الإيمان والتوحيد في قلوبنا، وتغمر جنباتها، وهو شهر شهد ميلاد خير أمة أخرجت للناس المكلفة بتصويب مسيرة الحياة الإنسانية، وإحقاق الحق وإبطال الباطل، وإقامة العدل وإشاعة الخير فيها، وفي هذا الشهر حقق الله لهذه الأمة أعظم انتصاراتها وفتوحاتها، فشهر هذا شأنه ينبغي أن تنشرح لاستقباله صدورنا وتبتهج بمقدمه قلوبنا وتكون فيه أعظم إقبالاً على الله شكراً لأنعمه ورجاء لفضله ورحمته، واغتناماً لفرص استنزالها، وتعرضاً لنفحات ربنا في شهره الكريم. ولابد من إدراك هذه الحقيقة وإعطاء الشهر الكريم حقه من حفاوة الاستقبال وكرم الضيافة، وحسن الصحبة وعمارة أيامه ولياليه بالإقبال على الله تعالى بذكره وشكره وحسن عبادته، والتقرب إليه بصنوف الطاعات والقربات، والتودد إليه بما يحبه ويرضاه من الأقوال والأفعال، والأخلاق والصفات، فساعتها ودقائقها غالية لا ينبغي لمؤمن أن يرخصها بإضاعتها أو بانشغاله بغير ما ينبغي أن تمر به، فشهر رمضان جعله الله شهراً لتزكية الأنفس والارتقاء بها إلى كمالاتها الإيمانية والأخلاقية والسلوكية، ومحطة للتزود بالمزيد من زاد الإيمان والتقوى والتوبة والمراجعة والتقويم لمسيرة حياتنا في مختلف جوانبها، ومعالجة جوانب الضعف واستدراك جوانب القصور والتقصير. ولقد ورد في السنة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم ما يدل على أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يحث المسلمين على حسن استقبال هذا الشهر الكريم ويذكرهم بفضله استحثاثاً لهم على حسن الانتفاع بأيامه ولياليه، ومن ذلك ما رواه الطبراني أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- قال: (أتاكم رمضان شهر بركة فيه خير، يغشيكم الله فيه فتزل الرحمة وتحط الخطايا ويستجاب فيه الدعاء فينظر الله إلى تنافسكم ويباهي بكم ملائكته فأروا الله من أنفسكم خيراً فإن الشقي من حرم فيه رحمة الله -عز وجل- ومما يدل على ذلك أيضاً قول النبي صلى الله عليه وسلم: (رغم أنفه)، وفي رواية أخرى: (خاب وخسر)، قيل من يارسول الله؟ قال: من أدرك رمضان ولم يغفر له).