يحلو للبعض أن ينظر للحياة من وجهة نظر خاصة يصبغها هو باللون الذي يشاء.. ويشكل معالمها كما تصور رغباته وأهواؤه.. وربما أفكاره أيضا.. غير أن هذه الصورة في التصور الإسلامي تعد منافية للغاية والهدف الذي كان من أجله الخلق بعامة، وخلق الإنسان على وجه الخصوص.. حيث يقو الحق جل في علاه: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}.. وعليه فإنه لا شيء من أنشطة الإنسان يمكن أن تسير في خط مواز لهذه الوظيفية.. بل لابد أن تكون منسجمة معها تمام الانسجام.. ومهما بلغت الفرادة في الشخص ومهما أوتي من ملكات فإنه لابد أن يرافقه سؤال دائم: أين القيمة الوظيفية لما تقوم به من قول أو عمل.. ما تنجزه من فكر أو فن.. ما تمارسه من سياسة أو اقتصاد.. بل إن الإسلام ليعد الأفكار التي ليست محلا للعمل.. وإنما شيء زائد على متطلبات ترقية الحياة وتمنية حقائقها في النفوس- يعدها شيئا ممقوتا لأنه لم يكن الغرض منها إعمال العقل في محاريب النصوص والشواهد الماثلة في كل صفحات الوجود لجعلها طاقة محفزة لحركة الحياة.. قال تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * يَأَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}(الصف: 1-3).. وإن الافتتاح بهذا التسبيح الذي ينفذ خيط سبحته الكون من ذرته إلى مجرته ليجعل هذا الميدان أيضا هو كتاب كبير كبير.. لكن مع كل هذا الكبر والاتساع يجب ألا ينفرد فيه نشاط عن نشاط في السير الحثيث إلى الله سبحانه، على هيئة لا تجعل ذرة تشرد عن قاعدة الوظيفية.. وإن التطابق المذكور في الآية لا يقتصر فهمه على الصورة الجزئية المتبادرة للذهن من إنكار لصورة المخالفة بين القول والعمل –وإن كان هذا صميميا لجعل الوظيفية ذات بعد جاذب-.. وإنما ميدانه الكبير هو الإشارة إلى أن الحياة وأنشطتها القولية يجب أن توظف لتنجز للحياة شيئا يساهم في جعل الاستخلاف خادما لحاجيات الناس وملبيا لأدوات قيامهم بالتكليف.. وما عدا ذلك فهو عبء على الفكر البشري واستنزاف لطاقاته في مباحث لا تنتمي بأي حال للمهمة الوظيفية التي خلق لأجلها الكون.. ومما يزيد من خطورة هذا النشاز الذي يحتنك الكثير من هذا التمحل الفكري الذي يجنح ذووه عن جادة النفعية، لتحقيق مآرب لها علاقة بملء الفراغ الذي يحسونه نتيجة بعدهم عن محاريب الحياة المحتشدة بأنواع التحديات التي يفرضها التطور المتسارع لصور الحوادث المستجدة على مسرح الحياة_ مما يزيد خطورته أنه وهو يدعي البحث عن حلول لمشكلات الحياة يقوم باصطناع عوائق في طريقها تضاعف الهم والجهد على العقل الوظيفي.. مما يجعله بإزاء إشكالات مركبة.. بعضها ناشئة عن الحلول الوهمية التي يطرحها الزاهدون عن مقاربة سفينة الحياة.. والذين يكتفون بإلقاء أوراق حلولهم عليها من فوق جبال الجليد المطمورة بعيدا عن الطرق السالكة.. وعلى مدار التاريخ الإنساني كان لهذه الأفكار التي لا تستمد دفئها ودفق الحياة في شرايينها من الطاقة المتولدة من الاحتكاك المباشر بين المقولات المستعلية والوقائع الماكثة في الأرض.. كان لها الأثر المدمر أو المعيق على حياة سكان الكوكب لما تقترحه من مقاربات ليس لها أدنى اتصال بالقواعد التي تحكم حركة الحياة والأحياء.. بحيث تراعي قوانين التطور والارتقاء فيها بما يحقق تنمية الحياة وتطورها وحل إشكالاتها العميقة، وتوليد أسئلة جديدة من رحم الإجابات التي محصتها حركة الأمم في طرقات الأيام..