عانت الشعوب العربية من الاستعمار سنون عجاف وذاقت ويلات المرارة والظلم ونهب الحقوق والحريات لعقود طويلة من الزمن، لكن نبض الشعوب العربية لم يمت لقد كان حيا وإن خفت نبضه أحيانا، لم يستطع الاستعمار بكل وسائله التي مارسها على المجتمعات العربية في تغريب هذا المجتمع وتمييع ثقافته وربما نجح نسبيا في بعض المناطق وما يسمى بالمغرب العربي إلا أنه سرعان ما واجه صدمة ثقافية في استعادة هذه المناطق لهويتها العربية والإسلامية . خرج الاستعمار من الأراضي العربية جارا ذيول الهزيمة ومدركا أنه لن يعود إليها مجددا ففعل المستحيل لتفريق الجغرافيا العربية وشرذمتها وتقطيعها إلى أوصال صغيرة ورسم الخطوط التي أسماها فيما بعد حدود جغرافية ودولية وأوجد المناخ المناسب لتفريق هذا الجسد في الاتفاقية المعروفة والمسماة بسايكس بيكو عام 1916 وللأسف فقد نجح في رسم الجغرافيا وتقسيمها نجاحا مبهرا حيث تقاسم البريطانيون والفرنسيون الأراضي العربية وبمباركة وامتيازات روسية. قامت معظم الثورات العربية تحت قيادة الجنرالات العسكرية طلبا للحرية والعيش الكريم فما لبثت الشعوب طويلا حتى اكتشفت أنها تحولت من الاستعمار الخارجي إلى استعمار داخلي أشد بطشا وتنكيلا مصادراً كل الحقوق والحريات التي كانت تحلم بها الشعوب . ضمير هؤلاء الحكام لم يتكلم يوما فقد مات وتم دفنه ولو تكلم وأفاق من غيبوبته الكبرى لأدركوا حجم المأساة التي سببوها لشعوبهم و لرأوا حجم الجهل والتخلف الذي أحدثوه في مجتمعاتهم، مات الضمير فتبلدت الأحاسيس وتناسوا الشعارات التي من أجلها وصلوا إلى الحكم بعد أن دعمت الشعوب إنقلاباتهم وحولتها إلى ثورات شعبية طلبا وطمعا في التخلص مما ألم بها في الماضي . أكدت الشعوب العربية حقها في التمسك بحريتها مرة أخرى وفاجأت طغاتها كما فاجأت مستعمريها هبت الشرارة من تونس فوصلت إلى دمشق مرورا بمصر واليمن وليبيا لتجدد الإعلان عن وحدتها في ثقافتها وهويتها فأزالت الطغاة وحلمت بمستقبل آخر لأجيالها ولشبابها لكنها هذه المرة قررت ألا تبتعد كثيرا عن ثورتها، بل ستظل حاضرة ومراقبة لكل ما يحدث وستتدخل في الوقت المناسب . الشعوب أدركت أنه لم ولن يتركها المستبدون وشبكاتهم الاقتصادية وآلاف العناصر الخفية التي ورثتها دول الفساد في قيادات الدولة باختلاف درجاتها الإدارية والعسكرية والمالية فقد أسسوا في عقود من الزمن شبكة عميقة الجذور تعتمد على الفساد المتسلسل والمعتمد على المصلحة المباشرة وبقاء المفسد الأكبر حتى يعيش المفسد الأصغر فبقاؤهم جميعا فيه مصلحتهم جميعا وزوال قياداتهم يعني زوال فسادهم وانقطاعه. نجحت التجربة في مصر وجاء رئيس منتخب يريد أن يطهر منظومة الفساد وينهض بالبلاد بامتلاك غذائه ودوائه وسلاحه، فحاربوه وتم الانقلاب عليه بغطاء ثوري مزيف ومفضوح، لكن الشعب تدخل هذه المرة لينقذ نفسه لا رئيسه لأنه وعبر التجارب المريرة التي مر بها الشعب استطاع أن يدرك أبعاد اللعبة سريعا فلم يتأخر، إلا أن هناك مفارقة غريبة هذه المرة فمن انقلب على الديمقراطية وألغى الحريات هم شركاء الأمس الذين كانوا ينادون بها، لم يتحملوا هزيمتهم خمس مرات من قبل الشعب فبدلا من العودة إلى أنفسهم وكشف الخلل المحيط وبهم وتغيير استراتيجياتهم والتوجه إلى الشعب مرة أخرى لينالوا ثقته رأيناهم تحالفوا مع النار التي ستأكل الجميع معبرين بذلك عن فشلهم الذريع سياسيا واجتماعيا وحزبيا وها هي النار قد بدأت تلتهمهم وتصيبهم بجحيمها . لو تكلم ضمير هؤلاء المنقلبون على الحرية والديمقراطية في مصر لفاحت منه صيحات الندم على ما ارتكبوه، أفاق ضمير البعض منهم فتمتم بكليمات غير مفهومة والخوف يعتريه من أن يصيبه لهيب النار المتوهجة التي شارك في لملمة حطبها و إيقادها ثم عاود الخفوت، أفاقت الكثير من الضمائر لكنها منتظرة خمود تلك النار أولا وقطعا ستخمد وستنتهي لأنها بدأت في أكل نفسها فالنار إن لم تجد ما تأكله تأكل نفسها حتى تنتهي، لقد عادت الى الخوف لقد عادت الى سابق عهدها، هل حن الضمير إلى الماضي يا ترى ! هي الانقلابات إذا تعاود الكرة من جديد ولكنها هذه المرة تعود بأشكال متعددة وألوان زاهية وبراقة كالحرباء حتى يتم الضحك على المواطن من جديد فتارة تعود تحت مسميات ثورية وتارة في اغتيالات سياسية وتارة في بيروقراطية مكتبة وقانونية وقضائية وتارة في ضغوط دولية وتارة في مشكلات اقتصادية وخدمية تمس المواطن مباشرة والغاية هي الغاية ذاتها والهدف هو نفس الهدف، هذه المرة يتم صناعة الانقلاب بتدرج مخيف في الأشكال التي ذكرتها آنفا حتى إذا اجتمعت جميعها في وقت واحد حققت هدفها . لكن الأمل الحقيقي معقود على الضمير التي تتكلم، معقود على الضمائر الحية والتي لم تمت والتي لا تعرف الغيبوبة والخوف.. لايزال الأمل معقودا بضمائر أولئك .