منذ سنوات كان لكاتب هذه السطور إسهامات عديدة في الجدل الدائر حول الوحدة والانفصال، والمسائل التاريخية والفكرية والسياسية المثارة حولهما.. وبمناسبة أن اليوم يوافق الذكرى الرابعة والعشرين للوحدة فقد يكون من المناسب أن نلتقط من تلك الإسهامات المتواضعة بعضا منها من باب أن الذكرى تنفع المؤمنين! أصل المشكلة! [بعد 18 عاما على قيام الوحدة ما يزال الأمل بعيدا في أن يتخلص اليمنيون من الصيغة السياسية المشوهة التي قامت عليها دولة الوحدة عام 1990.. وباستثناء التغييرات التي حدثت في الصور والأشكال والشعارات خلال السنوات الأخيرة - أو من بعد حرب 1994- فإن الأصل السياسي المختل ظل قائما! وما لم نفهم هذا فكل الذي سيجري خارج إطاره سيكون وقودا لمزيد من الاختلالات والفشل!] [منذ بداية عهد (الوحدة اليمنية) عام 1990م كان هناك توقع بأن الخطر الأكبر الذي ستتعرض له لن يأتي من الخارج ولا من المريخ؛ بل من داخل نخبة الحكم المتمثلة بالائتلاف الثنائي الذي حكم البلاد خلال المرحلة الانتقالية! وخلال تلك الفترة أطلق الأستاذ محمد سالم باسندوة مقولة شهيرة تلخص أساس الفساد الذي يهدد الوحدة وهي مقولة ثبتت صحتها تقول (أخشى على الديمقراطية من اتفاق المؤتمر والاشتراكي.. وأخشى على الوحدة من اختلافهما)!]. [ومع ظهور الحراك في المحافظات الجنوبية تأكد أن الخلاف هو حول (الكعكة) وليس حول (الوحدة).. فالذين في السلطة اتهموا الغاضبين بأنهم خسروا الامتيازات المادية -أي الكعكة- والذين في الحراك تحدثوا عن الثروة والأراضي والوظائف -أي الكعكة- ولم يتحدثوا عن أن معارضتهم بسبب الديمقراطية المزيفة والحريات الناقصة وحاجة الشعب إلى نظام سياسي عادل يتساوى فيه الجميع!]. مكمن البلاء! [والواضح أن السلطتين لم تكونا على مستوى إنجاز مشروع وحدوي حقيقي كما تمناه اليمنيون خارج إطار الحكم.. وكان أكبر خطأ وقع فيه الحكام أنهم ربطوا الوحدة بوجودهم في السلطة واستمرار سيطرتهم على مفاصلها وامتيازاتها.. ولم يكن أحد منهم مستعداً لأن يسمح لأحد، خارج إطار معادلة السلطة التي صنعوها لأنفسهم، أن يكون له سلطة تنافسهم ولو على مستوى نقابة أو منظمة جماهيرية!] [عندما اندلعت الأزمة السياسية في أعقاب انتخابات 1993م.. كان التعايش بين الحكام الذين أقاموا الوحدة قد صار أمراً مستحيلاً.. ليس بسبب ثنائية: الحداثة والتقليدية.. ولا الجنوب والشمال.. ولا الطبائع المجتمعية المتنافرة.. ولا حتى بسبب عمليات الاغتيال التي تعرض لها بعض كوادر الحزب الاشتراكي (للمفارقة؛ فإن معظم الذين تعرضوا لهذه الاغتيالات هم من الشمال، ومع ذلك كانت الاغتيالات أبرز مبرر للانفصال). السبب الوحيد كان هو فشل الصيغة السياسية السرية التي اتفق عليها قبيل الوحدة بين الحكام وعدم قدرتها على الاستمرار!]. تزييف الوعي! هاتوا أي مشكلة يصرخ منها الناس الآن وستجدون أنها كانت موجودة أيام الفترة الانتقالية.. فهذه الديمقراطية الشكلية وتزوير إرادة الشعب في الانتخابات والاستفتاءات، والإصرار على تهميش المعارضة بدأت منذ بداية الوحدة ومنذ الاستفتاء على دستورها وتقاسم الدولة بكل أجهزتها وتقاسم المحافظات والخزينة العامة وتقاسم النقابات والمنظمات الجماهيرية ورفض إشراك الآخرين إلا كديكور مع بقاء السلطة الحقيقية في أيدي الحكام المؤتلفين! حتى حقوق المواطنين المهمشين لأسباب سياسية كانت موجودة.. وكان أنصار الرئيس علي ناصر محمد -المعروفين شعبياً باسم الزمرة- هم أبرز من عانوا في تلك المرحلة.. ومثلهم عدد من المنتمين للمعارضة لكلا الشطرين السابقين.. ممن لم تسعهم مرحلة (نفق جولدمور) ولم يعد الحكام المؤتلفون يحتاجون إليهم! أوهام الهوية الخاصة! [ما بين السلطة الفاسدة والحراك المغرور بهوية كاذبة وأحلام العودة إلى الحكم.. ما بين هاتين البلوتين تتمزق عقول وأرواح الأغلبية من أبناء هذا الوطن أصحاب المصلحة الحقيقية في وحدة شعبهم ووطنهم. وفي العادة يتردد البشر في الاختيار بين سوأين أو شرين خاصة إذا تقاربا في السوء والشر أو إذا كان الأقل سوءاً يصعب التخلص منه! بين هذين الشرين.. ليس أمام الأغلبية صاحبة المصلحة الحقيقية في الوحدة إلا أن تستنهض همتها وقواها لتحديد خيارها الأقرب للمصالح الشرعية والوطنية دون أن تهمل أي طرف من أطراف هذا (البلاء) الذي نزل باليمن واليمنيين!] شعب واحد.. وطن واحد [من ينكر - إلا جحودا واحتقارا- أن اليمنيين من كل مكان امتزجت أرواحهم ودماؤهم وأنسابهم.. وعاشوا هنا أو هناك دون أن يقال لأحد منهم، لست في وطنك؟ ألم يتدفق عشرات الآلاف من الجنوب إلى الشمال ومن الشمال إلى الجنوب طوال سنوات القرن العشرين الماضي؟]. [في عام 1988، كنت في زيارة إلى (تنزانيا)، والتقينا هناك مع ممثلي المغتربين اليمنيين -كانوا ستين ألفا من الجنوب معظمهم من حضرموت والمهرة وأربعة أفراد فقط من الشمال من مديرية القبيطة تحديدا- وحكوا لنا كيف أنهم تعرضوا لمحنة أيام العهد الاشتراكي المتطرف الذي أراد طرد اليمنيين بعد تأميم ممتلكاتهم.. لكن المسلمين التنزانيين -وهي دولة أغلبيتها مسلمة- خرجوا عن بكرة أبيهم احتجاجا وتحديا للنظام الاشتراكي -كان بزعامة يساري صليبي اسمه: نيريري- رافضين طرد اليمنيين الذين ارتبطوا بهم بعلاقات النسب والمصاهرة والعيش المشترك فضلا عن الدين الواحد.. فهل يظن باعوم والنوبة، ودعاة الانفصال في الداخل والخارج، أنه يمكن فصل اليمنيين على أساس جغرافي رغم أنف كل العوامل المشتركة التي تجمع اليمنيين بدرجة أكبر من تلك التي جمعت بين التنزانيين والمغتربين اليمنيين؟]. [لسنا شعبين مختلفين: تاريخا ودينا وقومية وتقاليد وعادات ولغة حتى تكون الفدرالية المقترحة بإقليمين برئيسين وحكومتين حلا لمشاكل مفترضة ناتجة عن صراعات تاريخية أو دينية أو لغوية أو إثنية.. مشكلة اليمن المزمنة هي في الاستبداد السياسي، والفردية واحتكار السلطة في فرد أو حزب أو سلالة أو منطقة أو قبيلة أو تحت أي مسمى]. [لقد عاش اليمنيون منتمين لهوية وطنية واحدة مندمجين ثقافياً واجتماعياً وحتى (فنيا) و(رياضيا).. وامتزجت حياتهم رغم الفواصل السياسية التي تكرست أثناء الوجود الاستعماري البريطاني ثم أثناء الحكم (الوطني) في الثلاثين سنة التي سبقت الوحدة.. وعاش مئات الآلاف من اليمنيين من الجنوب في الشمال ومثلهم من الشمال في الجنوب.. تعلموا واشتغلوا وتاجروا وتزواجوا مثلما يصنع أي إنسان في وطنه.. وظل العداء (السياسي) محصورا بين الحكام والحكومات الذين اختلفوا حول السلطة والحكم! والحال اليوم هو هو لا يكاد يختلف، فالخلاف السياسي يظل محصورا بين السياسيين والحكام السابقين والحاليين.. أما الشعب فتجولوا في شوارع صنعاء والحديدة وتعز وعدن وحضرموت وغيرها وستجدون أن اليمني يعيش في أرضه ووطنه.. وحتى لو حدثت ملاسنات سخيفة بين البعض فهو أمر معهود في معظم المجتمعات.. وهي حالة شاذة تظهر في الأوقاف العصبية التي يمر بها (بعض) البشر ويلجئون بسببها إلى ذلك للتنفيس عن احتقاناتهم النفسية والمعيشية!]. [البحث عن اختلافات ثقافية واجتماعية بين (الجنوب) و(الشمال) لتبرير المواقف والمطالب السياسية استدراج إلى معركة وهمية؛ فبعض المحافظات الجنوبية توجد فيما بينها اختلافات ثقافية واجتماعية أكثر جذرية مما هو موجود بين بعضها وبعض المحافظات الشمالية!]. كيف واجه عبد الناصر الانفصال السوري؟ [أعترف لكم أن الذين يريدون إيهامنا أن (عبدالناصر) وافق على الانفصال السوري بسهولة قد استثاروا في داخلي الرغبة في السخرية منهم! فكأنهم يريدون أن يقولوا لنا إن موقف عبدالناصر في مواجهة الانفصال جرى على النحو الآتي: المشير عبدالحكيم عامر (نائب عبدالناصر في دمشق) يتصل فجراً برئيسه في القاهرة ويدور بينهما الحديث التالي: - حكيم: مبروك يا جمال.. جالك انفصال.. افرح بقى يا عم.. مين قدك! يا الله جهز الحلاوة يا ريس! - ناصر: يا ألف نهار أبيض.. يبشرك بالخير يا حكيم.. ألف مليون مبروك.. ولا يهمك.. حلاوتك من عيني.. أحمدك يا رب طولت في عمري علشان أشوف اليوم الانفصالي ده.. يا سلام يا حكيم.. فاكر لما كنا في منقباد وفلسطين ولما قمنا بالثورة وطردنا الملك.. كنا دايما نحلم باليوم ده! - حكيم: خلينا في الجد يا ريس.. أنا خايف حد يعارض الانفصال! -ناصر (منفعلا): بتقول إيه؟ أوعى يا حكيم أوعى.. حسك عينك أو عين واحد من بتوع الوحدة يمد صباعه وإلا يزعل الانفصاليين.. كل اللي نفسهم فيه يعملوه.. الله! إحنا ما صدقنا أن الانفصال وقع يقوموا شوية العيال الوحدويين يبوظوا علينا الفرحة.. اسمع كمان: كل مصاريف الانفصال على حساب الرئاسة.. وأي طلبات يعوزوها تصرف لهم فورا.. فاهم يا حكيم! - حكيم: من غير ما تقول يا ريس.. طب أنت عارف أنا علشان إيه اتأخرت دقيقة ونص بعد الانفصال في تبليغك الخبر السعيد ده.. أصلي اتصلت بالبلد وطلبت منهم ذبح عشره جواميس وعشرين خروف على حسابي! إحنا برضه أولاد بلد وبنفهم في الأصول! -ناصر: والله فيك الخير يا حكيم.. ودايما أصيل.. خلاص أنا كمان فورا حاصدر قرار باعتبار اليوم يوم عيد وعطلة رسمية بمناسبة الانفصال.. وأوجه بإذاعة أغنية (انفصال ما يغلبه غلاب) وأغنية (كل انفصالي عربي أخي).. وبالمرة نعمل مباراة قمة بين الأهلي والزمالك على كأس الانفصال! التحرك العسكري المصري لإسقاط الانفصال.. [(عبدالناصر) بمجرد ما علم بحدوث تحركات عسكرية في دمشق، واحتلال الإذاعة؛ تحرك بسرعة واتخذ من دار الإذاعة المصرية مقرا لإدارة الأزمة حتى يكون قادرا على متابعة التطورات من إذاعة دمشق التي بدأت تذيع بيانات الانقلاب. وكان مفهوما أنه في ساعات الانقلاب الأولى لم تكن الصورة واضحة عن حقيقة ما يدور في سوريا، ومدى التمرد العسكري وأهدافه الحقيقية؛ فقد كانت البيانات الأولى لا تتحدث عن انفصال عن الوحدة صراحة وإن كان الأمر مفهوما. وعندما علم (عبدالناصر) أن القوات المسلحة في (حلب) و(اللاذقية) و(دير الزور) ترفض الانفصال وبدأت تصدر بيانات ضده، وأن مظاهرات ضخمة غاضبة تتحرك في دمشق ضد الانفصال وتتجه إلى دار الإذاعة التي تذيع بيانات الانفصاليين، لحظتها قرر (عبدالناصر) إرسال قوات عسكرية لدعم التحركات المضادة للانفصال.. وبدأ بالفعل إرسال لواءين من قوات الصاعقة (مصريين وسوريين) للهبوط بالمظلات في اللاذقية، وتحركت سفن حربية من الإسكندرية باتجاه سوريا.. وصودرت كل السفن المدنية لنقل القوات! وفي أول خطاب مرتجل صباح يوم الانفصال تحدث (عبدالناصر) كرئيس جمهورية مسئول عن حماية وطنه وشعبه، أو كما قال (قد يعتقد بعض الناس أني سأنتهز الفرصة حتى أعلن فك الجمهورية العربية المتحدة.. أنا غير قادر على فك الجمهورية العربية المتحدة.. وليس من سلطتي ولا من شيمتي بأي حال من الأحوال أن أعلن فك ج. ع. م أو حل ج. ع. م، أنا مسئول تجاه كل سوري وتجاه كل مصري وتجاه كل عربي.. ومسئول عن هذه الجمهورية وحمايتها.. كل فرد من أبناء الجمهورية العربية المتحدة.. وكل فرد من أفراد الجيش -جيش ج. ع. م - وكل فرد من أبناء الوطن العربي مسئول عن حماية هذه الجمهورية وأهداف هذه الجمهورية. إن الجيش الأول في كل مكان في سوريا يتحرك الآن، بعد أن صدرت له الأوامر، إلى دمشق ليوقف هذه الحركة وليوقف هذا التمرد..)]. احذروا المصيدة! الانفصال ليس خياراً سياسيا كما يحاول البعض التهوين من مواقف الداعين له.. إلا إذا كانت الديمقراطية وكل المبادئ الأساسية في الدستور خيارات سياسية يمكن لمن حصل على الأغلبية أن ينقلب عليها أو يغيرها كما يريد؟