أعود متعثراً بشجون كثار, مربكٌ طول الغياب, ومربكٌ شغف الإياب, وحزيناً أعود «وبين الحزن واللامبالاة سأختار الحزن», سأختار المجاهرة بالوجع, بين الأمل الكذوب واليأس الصادق أختار اليأس, أختار اليأس الخلاق, اليأس المحرض على النقيض من القول والفعل. كم هو مرهقٌ إدعاء الصحة في واقعٍ موبوء مسكون بالأدواء, نتملق أسقامه, ونحاذر شكوى العليل, تبدو المريض, بين خديعة الواقع وخديعة الذات تلازم وثيق, ويستمر الواقع المخادع بقدر إستمرار مخادعة الذات, أناوش اليأس فاصلاً بين يأسٍ ويأس, بين يأسٍ حقيقي صادق وصل ذروته من خيارات وإتجاهات ووجهات ووجوه, بحيث يتم أغلاق باب التعاطي معها وإجتراح بدائل مغايرة, ويأسٍ آخر مزعوم يلتبس فيه الشك باليقين, وتختلط المشاعر والأفكار,, فلا أنت محسوبٌ على اليأس ولا على الأمل. أركز هنا على هذا الوعي الملتبس, الذي ينتج ما يقابله على مستوى الحضور, هذا الوعي المداهن والمهادن لا يمكن أن يشكل دافعاً لفعل مناقض ومناهض, هذا الشعور المختلط والمضطرب لا يمكن أن يدفع لتجاوز فعلي لأزمة الوجود. ما يحدث أننا نبدو أيأس ما نكون من هذا الدرب الذي أستهلكنا حتى النخاع, وذقنا مراراته وخبرنا ويلاته إلى المنتهى, ورغم هذا اليأس المصرح به نطور تعايشنا وتكيفنا على نحو دائم, دون أن يشكل يأسنا هذا فارقاً يذكر, بل يبدو مدعاة لمزيد من الإنغماس والخضوع. أشكك فيما ندعيه من وصولنا إلى درجة الإنسداد, إذ لا أحد أعلن انفجارا يليق, إن التعاطي البائس مع السلطة ضمن أشكال معارضة وقورة تفصح بأننا لم نصل بعد حد القطيعة, وحد نفض اليد. كل الثورات نتاج يأس حارق, ووعي فارق, لا بد من مجاوزة الوعي السلبي وإحداث صدمة حقيقية على مستوى الوعي والشعور, تخرج المرء من حالة التواطؤ مع قهره بحيث يركز طاقاته وإمكانياته وإرادته نحو الخلاص. بين الوهم والحقيقة خيط ٌ رفيع, في مقدورنا أن نتحمل العيش في الوهم حين نجبن عن تحمل تبعات الحقيقة, لا يمكن للطبيب أن يؤجل مصارحة مريضه بطبيعة داءه وعلته, عليه في لحظة ً أن يكاشفه, فلأن يعيش على يقين من المرض خيرٌ له أن يعيش على وهم الصحة, في الحالة الأولى يمكن تقدير إمكانات الشفاء ووسائل المدافعة, واتخاذ مجمل القرارات بإرادة ومسؤولية وإيمان, وفي الحالة الثانية يغدو المرء ضحية جهله بخطورة ما يحمل من أسقامٍ مميتة. أتساءل إلى أي مدى نحن ضحايا وعينا الخاص والعام فيما يتعلق بطبيعة حياتنا وعلاقتنا بالدولة والنظام؟ إلى أي مدى يشكل حضورنا المترهل تجلياً لأزمات عميقة على مستوى الفكر والروح, أزمات حددت مستوى الفعل والخطاب. هناك الكثير مما يجب أن نعترف به إن أردنا إحداث فرق, التغيير لا يمكن أن يكون نتاج وعي خامل, ولا مشاعر مبهمة, التغيير يبدأ حين نكف عن مخاتلة الذات, يبدأ حين نقرر صراحةً أننا لم نعد نطيق, حين نريد ونرغب في واقعٍ آخر مختلف, حين نؤمل بقوة ما يدخلنا من يأس وحين نفعل بطاقة الأمل كاملة. علينا ألا نخاف من كوننا يائسين بل من كوننا راضين قانعين, لا أتحدث عن الوعي الكئيب وسوداوية الروح ولا عن القنوط والإحباط المقعد, أتحدث عن اليأس الذي يمنح الأمل معناه, اليأس المحرر الذي يخرجك من دائرة المراوحة في درب الخسران, اليأس الذي يصل بك ذروة الإنتهاء وإعلان القطيعة ودرجة الرفض والثورة, هذه العقود من توقف التغيير, تضع يأسنا المصرح به في دائرة الشك, يأسنا من السلطة ومن خياراتنا البائسة. مع كل إنتخابات نختبر هذا الوعي غير الواضح وهذه المشاعر المتداخلة, كما نختبر ذاك مع كل فعل قعيد لا يفضي إلى شئ. تنتظر اليمن تغييراً ربما أكبر مما يعد به الحوار المطروح, وندرك الأن مدى خطورة التورط في تبني خيارات غائمة ملتبسة كليلة لا تتناسب وحجم التحديات التي نعيشها. من الخطأ في ظروف موحشة كهذه أن يتحول فعل التغيير لإشتغال نخبوي يعمق عزلة المعارضة كما يزيد من يأس الشارع وإحباطه. الإشتباك الخطابي الدائر حول الحوار ومعوقاته وإشكالاته المتجددة ينقل المواجهة إلى ساحة أخرى ربما بعيدة عن الهم المعيش, لسنا في وضع لا يتيح كل هذا الإسترخاء. «إذا لم توقظ اللحظات العصيبة الشعب للنضال والأعمال النبيلة فإنه عندها لا يستحق الخلاص». هل يكفي ما نحن فيه لمزيد من النوم والأفعال الناعسة.