الثقافة هي حالة تجلٍّ جمعية، تحضر فيها الذات المبدعة إنجازا حقيقيا، يمثل إضافة للمسيرة الثقافية لأي شعب من الشعوب، وموجها من أهم موجهات السير في تحقيق المعرفة، وإرساء مداميك الوعي، لبلوغ مرحلة من مراحل الرشد، كدليل واقعي على فاعلية الأمة، وأنها لا تزال تتنفس حياة وإبداعا. في واقعنا الثقافي لم تكن الثقافة فيما سبق تمثل في سيرورتها العامة حالة نضج فاعل، لكنها كانت في الحد الأدنى تعلن عن نفسها بفعالية هنا وفعالية هناك، وكانت وزارة الثقافة باعتبارها المسئول الأول في إنتاج الواقع الثقافي حاضرة في المشهد ولها فعالياتها التي تتناسب وما رُصد لها من ميزانية مالية. وقد عاش المثقفون اليمنيون هذا الواقع حتى عايشوه، وقبلوا به أملا في مجيء قادم أجمل يعيد للثقافة اعتبارها، ويجعلها على سلّم الأولويات، غير أنَّ الانهيارات السياسية الأخيرة صدمت هذه الآمال بواقع متخلف يسعى في وأد المثقف وخنق الثقافة من جهة، وفي إنتاج نماذج شوهاء تمثل تبعية مقرفة، يتحوّل فيها المبدع –أو الذي يفترض فيه الإبداع- إلى مجرد بوق مزعج، يسعى في قلب الموازين، وفي إحلال قيم النكوص والتراجع محل قيم الحرية والكرامة المضمار الجميل لمفاعيل الثقافة. فكيف يقرؤ مثقفونا واقع الثقافة خلال عام مثل كابوسا طويلا للثقافة والمثقفينن وفقدت فيه الثقافة ذلك الهامش البسيط الذي كان يمكّنها من تحقيق بعض المنجزات على المستويين الفردي والجمعي؟ حالة جليدية يرى الدكتور أحمد النهاري أنَّنا نعيش مواتا ثقافيا حقيقيا، مشيرا إلى الحالة الجليدية التي وصل إليها الواقع الثقافي، والتي لا تنبت فيها زهرة، ولا يغرد فيها بلبل، مؤكدا أنَّ وزارة الثقافة والهيئة العامة للكتاب واتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، والمؤسسات الثقافية العامة والخاصة تحوّلت إلى بيوتِ أشباح تعوي فيها الرياح، وأن المثقفين مقموعون، يعيشون حالةَ من الخوف والإرهاب الفكري، وهذه الحالة المزلزلة لا يمكن معها تحقيق أي منجز ثقافي، يمكن أن نعدّه رقما صحيحا خلال عام مرّ، والدليل على ذلك غياب الإصدارات الأدبية والفكرية غيابا كليا، وانعدام الفعاليات الثقافية التي كانت موجودة على الأقل في أمانة العاصمة صنعاء وفي عواصمالمحافظات. ويتابع النهاري: في مسيرة الأمم الحية تحضر الثقافة ببعدها الإنساني حتى في أحلك الضروف، بل إنَّ كثيرا من المنجزات العالمية في الأدب والفن كانت وليدة واقع مأزوم، استفزَّ في أصحابها كوامن الإبداع، والسبب في ذلك يعود إلى وجود هامش من الحرية سمح لهؤلاء المبدعين أن يقولوا كلمتهم حتى وإن كانت مناهضة لأساطين السياسة المسيطرين على عموم الموقف. أما في بلادنا –والحديث لا يزال للنهاري- فإن حملات القمع التي وُجّهت للصحفيين المناهضين والعلماء والمفكرين المخالفين باعتبارهم الصوت البارز في واقعنا الثقافي قد صنعت إحساسا عدميا، تفقد فيه الثقافة أدنى وسائل البقاء، ويتحول النطاق الجغرافي إلى بيئة طاردة للإبداع، خانقة للمبدعين، لا تفرّخ غير العدمية القاتلة. ويختتم النهاري مشاركته بالتأكيد على أنَّ الثقافة مرّت بعام أقل ما يمكن وصفه بأنه عام الحزن، وهو عام فقر وجدب، قل أن تجد له مثيلا في عموم المسيرة الثقافية لليمن عبر قرون متعاقبة، والمؤسف أن حدود هذا التداعي المخيف لا تقف عند طرف، ولكنها آخذة بالاتساع، لتشمل كل مفردات الثقافة من إبداع وتراث وآثار، بل إن أخطر ما فيها أنها تقتل مكامن الوعي في شخصية الفرد، وتعمل عن طريق الزيف السياسي على إحلال قيم رديئة، تعود بالإنسان إلى ما قبل التاريخ.. وتلك هي المعضلة. عام الفجيعة وبدوره يرى الشاعر أكرم مرعي من الحديدة أنَّ المنجز الثقافي يأتي حصيلة تراكمات فاعلة من الوعي والتنوير، مشيرا إلى أن الواقع الثقافي في اليمن عاش عقودا من القلق، كانت الثقافة فيها موجودة على استحياء، وكانت الأجواء الخانقة كفيلة بأن تلد أجواء من الإحباط والنكوص، انعكست على الذهنية الجمعية للمبدعين في مختلف مفاصل العمل الثقافي. ويؤكد مرعي ما أشار إليه الدكتور النهاري سابقا في أنَّ الأشهر الأخيرة مثلت آخر مسمار في نعش الثقافة، وأصبح المثقفون الحقيقيون مطاردين، مقموعين، تائهين ما بين مشاغل الحياة ومتطلباتها، وما بين إفرازات الواقع السياسي التي سلبتهم حتى نعمة القول والتعبير عن الرأي بحرية وشفافية. ويختتم مرعي مشاركته مؤكدا أنَّ الذين يراهنون على منجزات عام مرّ واهمون، أو مغالطون، وليس ثمة احتمال آخر، وخاصة في الجانب الثقافي، ويدلل على ذلك بمقارنة عجلى ما بين عام 2011م عام الثورة، وما بين عام 2015م عام الفجيعة، حيث كان عام 2011 مثقلا بالفعاليات والإصدارات، وبرزت فيه قامات عملاقة من الأدباء والمفكرين، وخرج فيه دكاترة الجامعات عن جلبابهم الأكاديمي إلى ساحات الثقافة حوارا وترشيدا.. فأين كلُّ ذلك مما نحن عليه اليوم؟