أسعفه مزاجه المتقلب، بعد انتصاره في حاشد، أن يتوج فرحته. أطلق من السجن وزيره السابق، عثمان، وسجناء حاشد. عاد وأسعفه. سجن الوزير المتنفذ قاسم العفاري. أتهمه بتقليل الفضة في العملة. وضاق صدره بأعمامه، بلغه أنهم يقدحون في ملكه. قبض على خيولهم، ثم عليهم، أودعهم السجن، ثم زارهم، أراد مزاجه المتقلب. نقلهم من السجن العام إلى بيت، سجن فيه جده المنصور منافسه ابن إسحاق. مزاج متقلب، مثل الفوضى. جاءت هذه المرة من أرحب. غادرت قبائلها. يصحبها على الجوفي الهارب.ٍستة عشر مائة، حفاة، يتقدمهم فرسان على عشرة خيول. وصلوا الروضة ليلاً. هجموا على شعوب صباحاً. احتفلت أرحب بعرس المهدي بطريقتها. حاولت التحكم والتمركز ببعض ضواحي صنعاء. خرجت لهم خيل المهدي، ولحق بهم المهدي، كان قد فتك بعروسه، وأراد أن يفتك بقبائل أرحب. فتك بهم، طاردهم إلى ديارهم، عاد إلى صنعاء، لن يقدر عليم في ديارهم، فعاد يعد العدة. طلب قبائل خولان، ووصلت من عمران قبائل. كانت من أهل الجبل وعيال سريح. وأخرى من همدان، وبلاد البستان وسنحان. خرج المهدي إليها، كانت في الروضة، أستعرض جنده، والقبائل. عاد إلى صنعاء مطمئناً. أرسل المهدي من يمنع التحالف، بين أرحب وغيرها. تبين لأرحب ما تورطت فيه. قام رؤساؤها بالتوسل، والتوسط. عرض الوسيط أن تقدم أرحب، ذبائح ورهائن. جاءت الوساطة متأخرة، رفضها المهدي. اتجهت أرحب لطلب العون. استجابت بكيل، بعضها من ذي محمد، وذي حسين. وقبائل يام. وآخرون. إلا قبائل نهم، بكيل. أختلف قادتها، بعضهم فضل الحياد، والأخر قال: قد تطلب أرحب نجدتنا، عيب أن نردها، وأخر قال: نلبي طلب المهدي. جاء طلب أرحب متأخراً، كانت نهم قد أرسلت قبائل للمهدي. عبد الله حسم الأمر، المهدي عبد الله. كان له أن يحسم، وإلا فلماذا كانت دعوته للقبائل؟. لم تكن لوحدها القبائل، والعساكر. غادر صنعاء. ينظر حوله: قبائل وعسكر. تحسس صدره، لن يطفئ غليانه، إلا تأديب أرحب. لم يغادر للنزهة، كانت للحرب. خرجت أرحب على التقاليد القبلية، حزت رؤوس قتلى، كانوا من همدان، زادت العداوة بينهما. لم يتردد يحيى الهمداني، حز رأس أرحبي، أهداه للمهدي، وأهداه المهدي: (عشرة ريالات، ومشخصين من الذهب). لم تعد أرحب للحز، كان المهدي قد أنتصر، إلا أن الأسعار ارتفعت. إذا لم ينفع الانتصار الناس لا قيمة له. قام المهدي بتغيير العملة. ثبت سعرها، إذا زادت الفضة في الريال، ثبت قيمته. كيف ما كانت الفضة، كان الريال. قيمته ما يشتريه الناس. رضي الناس به، والاستقرار، ما أقصرها فترة الاستقرار، إذا كانت، كأنها حلم، فأمسك عن الكتابة. لا أريد أن ييقظني منه القلم. * * * * قالت (يمن): - مالي أراك ممسكاً عن الكتابة. - وماذا أكتب الأحوال مستقرة. - سوف تكتب، فقد أستدعى المهدي، قبائل ذي محمد وذي حسين. - أين هي، عدت قبل قليل من السوق، لم أشاهدها، ولم أسمع خبراً عنها. - عيني أخبرتني قريباً سوف تكون هنا..رديت (دهشاً): - عينك!!..ردت (همساً): - علي بن عبد الله المهدي. عرفت عينها. سررت، سوف يأتينا بأخبار القصر. علي هذا ما أعجبه. أول ما شاهدته، كان يقفز إلى، ومن سرير جده. وشاهدته ثانية يزور يمن؟ لا أدري سر حب الأطفال ليمن. كما شاهدته لأول مرة، يقفز إلى، ومن، أي مرتفع عن الأرض. لم يجد في آخر زيارة غير كتفي..قلت ليمن (حائراً): - ما سر حبه لك. - بل للحلوى. - كيف؟ - زارتني والدته، كان معها. أعطيته حلوى. لم ينل منها ثانية. سقطت على الأرض، ومنعته والدته من التقاطها. عاد ثانية لوحده يسأل عنها. قلت له أني قد رميتها أجهش بالبكاء. قلت: سوف أعطيك غيرها. رفض. رفضه دفعني للبحث عنها، من حسن حظي أني وجدتها. فرح بها، لم أمهله. خطفتها من يده. قلت له: دع منها للمرة القادمة. عرفت طبعه، فإذا عاد وافاني بأخبار القصر. - وإذا ما تبقى منها، كانت الأخيرة. - لن تكون إلا إذا أردت، أو أراد القدر. * * * * لم يكذب علي. اكتظت شوارع صنعاء بقبائل ذي محمد، وذي حسين. خيول، إبل، وعقال. سألت عن القاضي عبد الله بن حسن العنسي البرطي، دفعني الفضول، ما كان لواحد مثله أن يغيب. لم أحصل على الإجابة إلا في اليوم الثاني، أجابني أحدهم..قال: أنه في قرية من أرحب. سألت لماذا؟..لم يجبني، ولم أسأل ثانية، لكني سألت: ولماذا اُستدعيت؟..من أجابني همساً، ومن أجابني جهراً. يريد المهدي، إعداد حملة ضد الشريف حمود لاستعادة تهامة. وأراد المهدي أن يرمي بكبارهم في السجن، وبصغارهم في القبور. إن كانت الأولى لم يحن الوقت، وإن كانت الثانية، ما أقصر نظره. إذا نال منهم، انتقاما من برط، ويستريح منهم، الخطر الأكبر، فلن ينال من برط. من قال الثانية، واصل قائلاً: هو رأي وخطة وزيره قاسم العفاري، من أقصاه، وأعاده للوزارة، فلا تأمن من السلطان ولو قرب. احترت. وضعت القلم. ذهبت أبحث عن يمن. وجدتها واقفة أمام النافذة. لم أسلم، أنستني حيرتي..قلت: - أكاد لا أصدق أن الوزير..ردت (مقاطعة): - هم هكذا، كتبة الإمام، إذا كان رأياً صائباً قالوا: الإمام، وإذا كان خاطئاً قالوا: الوزير أو غيره. - وأنت ما رأيك، يريد أن يستعيد تهامة، أم يستريح من برط؟ - لن يستعيد، ولن يستريح. أخاف على بئر العزب من صلف وغرور المهدي. في بادئ الأمر، كأنها الأولى، وفيما بعد، كأنها الثانية. أكرم وفادتهم. (قرر لهم المرتبات، وأمر لهم بالطعام والإقامة). ثم أمرهم بالتوجه إلى تهامة، إلا أنهم طالبوا بالمزيد، مثلهم لن يتوجه بدون شروط. لم ينفذ ولم يوافق. أمرهم بالبقاء بالمدينة. أمره يعني اعتقالهم. صرخ زعيمهم: ليس لنا إلا خياراً واحداً، القتال ودار المهدي أول أهدافنا. وصلت الصرخة إذن المهدي، (قام وقعد). أمرهم، تحدوه، أمر في غير محله، وتحد في غير مكانه، فأمر بغلهم بالزناجير، وجرهم إلى السجن. رؤسائهم، كانوا في منازل، وخانات، تحصنوا فيها. صمموا على إطلاق رؤسائهم ، وصمم المهدي على حصارهم. أمر جنده. كان حصاراً مشدداً. غرهم الليل، وباب شعوب. بلغهم أنه مفتوح. شدوا رحالهم وأمتعتهم إليه.خانهم البلاغ.كانت رصاص الجند لهم بالمرصاد. من كان منهم، أصبح جثة هامدة، ومن لم يكن، ألقى بنفسه فجرح وتكسر. (أصابهم من البلاء ما لا يعرفون). من بقي منهم في المنازل، والخانات، فر إلى القاضي عبدالله العنسي، كأنه كان يتوقع ما وقع بهم..قال لهم : - ( الآن تطرش عشر من الخيل إلى الطريق التي جئتم منها، أخاف عليكم غازية الإمام.) - الخيل مغلق عليها في صنعاء! - فعشرين من الإبل . - والإبل تركناها كذلك! - فاجمعوا لي عشرين من عقالكم. - كل العقال في السجن. - ( فلا بكيل بعد اليوم، قد ذهبت أيديكم وأرجلكم ورؤوسكم..)..قاطعتني يمن : - (أما أيديهم فالخيل، وأما أرجلهم فالنوق، وأما الرؤوس فالعقال)..فمن أبلغك بالحوار. - عيوني، أم هي لك فقط . - وقد قالت عيني: أن المهدي قد طلب خولان، فلا يفل الحديد إلا الحديد. - وقد وصلت بأعداد كبيرة، جاهزة لتلبية الطلب، مادام المال، وأمرهم بالبقاء..لم تأت بجديد. - (وزار المهدي سجناء بكيل، فأوجسوا خيفة، وخشوا إعدامه لهم)..أم أنك قد سمعت بذلك. - لا..استطردت (ملوحة بورقة): - وهل قرأت ما بهذه الورقة؟. - ما بداخلها. - بياناً على عماله والولاة. - لا. - غرور ما بعده غرور..دفعه إلى أن يقول: وليعلم المسيئ أن أمرنا بيد الله مرهوب مخوف..إلى آخر ما قال..أمره بيد الله، وغيره بيد الشيطان..من أعطاه الحق. - ما حاول والده أن يسده ها هو يفتحه، إمام وقبيلة وجهان لعملة واحدة، فمتى يكون سلطان وشعب..دارت حول نفسها، ثم قالت : - أين أمي ؟ -عند حسن، زوجته تكاد أن تلد، أم أنك نسيت؟ - أنساني خوفي عليها..يا لطيف ألطف..لن تسكت بكيل. ذكرت قول يمن، وأنا أشاهد جثة النقيب علي عبد الله الشايف، أحد مشايخ بكيل.كان مسجوناً، ثم معلقاً، بعد أن أمر بقطع رأسه. أي مهنة أمتهنها، وأنا أدون هكذا حاضر، لا يلبث أن يكون ماضياً، عزائي أن يكون عبرة. * * * * لم يدع خولان للهجوم على برط، دعاها لحماية المدينة. عساكره لا تكفي. لم يبال بالعواقب. أكتب عن العاقبة، وأنا أجهش بالبكاء. قدري أن أكتب ولو كانت رشا، و..لن تسكت بكيل، كما قالت يمن، وما يقوله العقل، إلا عقل المهدي. بخس اللقب. هجمت قبائل برط، اختارت منتصف الليل. أحضروا سلالم، تسلقوا السور الغربي لقاع اليهود. هاجموا منازلهم، ثم انقلبوا على بئر العزب.كانت الحراسة عليه قاصرة. ظن المهدي بأنها، إذا هاجمت، هاجمت من الشمال. فمتى يحتسب الظن الخائب العواقب .نهبوا المال والمتاع. قلعوا الأبواب والنوافذ. وقتلوا الرجال. منهم الأعيان والقضاة. وتمكن شيخ الإسلام الشوكاني من الهرب. هرب بمعجزة من المذبحة، إلى صنعاء القديمة المحمية.كانت تعرف بأنها محمية بالسور. فلم تهاجمها وفيها من سجن المهدي منهم. ما أذكاهم!. وبئر العزب، الضاحية، حيث بيوت بعض الموسرين ودور الإمام، وبيتي، وبيت يمن.كنت متخفياً في بيت يمن، وراء النافذة، أسترق النظر، وكانت تواجههم، كاشفة عن وجهها وشعرها. تسمروا في أماكنهم. لا أدري إن كان جمالها صرعهم، كانوا، كأنهم أصنام، أم ضميرهم، العيب أن يهاجموا امرأة..صرخت في وجوههم: - أنا أرملة المتوكل أحمد، الإمام الذي أنصفكم من أبيه، ووزيره، أم أنكم قد نسيتم. تفرقوا، ينهبون، ويقتلون في غير بيتها. لا أدري من فرقهم، المتوكل، أم العيب. ليتها كانت هناك، أو كانوا هنا. صدقت، وصدقت بأنهم قد تفرقوا، ولم نصدق أن فردوس وكاتبة، أولاد حسن، كانا يجرون نحوها. ليت الأرض انشقت وبلعتني، وليتني قفزت من النافذة.كنت استرحت. ومتى كانت ليت. أقفز على السلالم.كانت تحضنهم إلى بطنها، لم يصلا إلى صدرها. وكانت الفاجعة ترويها كاتبة: كانت رشا قائمة على توليد مريم، وكان حسن يذرع الحجرة ذهاباً، وإياباً، وكانا جالسين، ينظران إلى والدهما تارة، وإلى باب الغرفة تارة أخرى. أيهما أولاً أن يُفتح الباب، أو يقف الأب، لم يكن أحدهما. كانت الأصوات تقترب رويداً رويداً، وقف حسن، ولم يُفتح باب الغرفة، فُتح باب البيت، فٌتح عنوة، كان موصداً من الداخل. فتحه رجال، كانوا وحوشا، وكان أبي، ضاع عقله، أراد أن يصدهم. انهالوا عليه طعناً بالخناجر. كانوا كذلك، وكنت وأختي، أحضنها، وتحضنني في زاوية الحجرة، وكانت جدتي واقفة على عتبة الباب، تصرخ: - ماتت زوجة حفيدي، وابنها، وتقتلون حفيدي..من ورائي موت، وأمامي قتل، فأين أذهب؟..ثم سقطت ميتة. يتبع