في مُستهل التاريخ كانت لنا جنتان عن يمينٍ وشمال، وكانت خيراتنا تكفينا وتفيض للبلدان التي حولنا، وكنا أهم موقع على خطوط التجارة العالمية القديمة، وكان الراكبُ في أمان من صنعاء إلى حضرموت لا يخافُ إلا الله والذئب على غنمه، ولكننا لم نشأ أن يستمر علينا هذا الرخاء وتلك النعمة، فدعونا "ربنا باعد بيننا وبين أسفارنا"، فشردنا الله في الأرض فنهار سدُّنا وراحت جناتنا وبارت بساتيننا وغطت صحراء الربع الخالي بردئها القاحل علينا! وعرفنا الحضارة تلو الحضارة، وفي كل مرة لا نجد إلا أنفسنا لنتصارعَ ونتحاربَ معها، فتارة نتقاتل على جمل إلى أن نُفني أربعة أجيال من شبابنا، وتارة نتقاتل على سباق خيلٍ ونُحرق الأخضر واليابس، ونسفك دماء بعضنا البعض دون رحمة! وأستمرينا على هذه الحال إلى يومنا هذا، لا نقدرُ إلا على أنفسنا! عندما تعتدي دول الجوار على أراضينا وحدودنا، لا نُحرك ساكناً ولا نُسكن متحركاً، ولكننا أقوياء بل وفي غاية الشدة والحزم على بعضنا البعض داخل البلد الواحد وفي نفس الأسرة والقبيلة الواحدة! هكذا كنا وهكذا أصبحنا لا نقدرُ إلا على بعضنا! نُفجر أنابيب النفط وخطوط الكهرباء ونقطع الطرق على عبور قاطرات البنزين والتي هي في الأصل ملكٌ لنا ونحن المستفيدين منها! ونقاتل دولتنا ونستهدف خيرة خيرة رجالنا ممن يحمون وطننا ومن يسهرون في عز البرد وشدة الحر على مكتسباتنا وسلامة أراضينا! ونحنُ أيضاً رجالٌ على نسائنا، نقطع الأرحام ونمنعهن ميراثهن ونضربهن ونحبسهن ونُظهرُ رجولتنا في بيوتنا وعلى أهالينا فقط! ونتقاتل في نفس القبيلة، وإذا توسعنا قاتلنا أقرب القبائل في منطقتنا وفي جوارنا، ولا جوار لدينا! من جاورنا لم يسلم من أذيتنا، ومن أجرناه قاتلناه على أتفه الأسباب! أليست هذه صفات المرتزقة وقُطاع الطرق! أليست هذه الأخلاق أخلاق الجاهلية الأولى؟ أين ذهب التاريخ والحضارة والدين والإسلام عنا فيما نصنع، فلا الحضارة ولا الدين يُجيزان ما نفعله الأن بأنفسنا! إين منا بلقيس التي قال لها قومها "نحن أولو قوة وأولو بأسٍ شديد"، فحكَّمت عقلها، وأين منا قول الرسول (ص) "الإيمان يمانٍ والحكمة يمانية" في كل هذا الذي نفعله؟! لماذا تقوم فينا كل هذه العصبيات المناطقية والقبلية والدينية ولا نتعلم من أخطائنا على مر التاريخ؟ لماذا نكذبُ على أنفسنا ونتهم الأخرين بالتدخل في شئوننا الداخلية، ونحن من نركض إليهم ليعلمونا كيف يقتل الأخ أخيه والجار جاره؟ نحن من نستهدف مصالحنا لا الغير! وبأيدينا لا بأيدي الغير نضرب مصالحنا الحيوية ومنجزاتنا، ونبكي عليها، ونتهم حكوماتنا بالفشل والتقصير! لا يكاد المرء يُصدق ما يجري حوله هذه الأيام! إمرأة تفجر أنابيب النفط فتُخسِّر الدولة ملايين الدولارات وهي في أعز الحاجة لها دون أن تنظر لعواقب هذا التصرف! وقبيلة تفجر أبراج الكهرباء فتقطعها عن بلدٍ بحاله ليعيش الناس في ظلمات، دون إدراك لإحتياج الناس للكهرباء في فصل الصيف وفي أيام الأختبارات وفي المستشفيات وغيرها من المرافق الحيوية التي هي في أمس الحاجة للكهرباء!! وعصابة تمنع قاطرات النفط من العبور وتخلق كارثة مجتمعية وأنسانية دون مراعاة لأشغال الناس وتعطل النقل وتصارع البعض على قطرات الديزل والبترول!!! وجماعة تقتل وتذبح إبناء القوات المسلحة بدمٍ بارد وتخلق حالة من الرعب والهلع في أبناء الوطن أجمع!!!! لا يُمكن أن نُفسر ما يحدث بالتخلف والأمية، فهناك دول أشد تخلفاً وأميةً مما نحن عليه، ومع ذلك لا يتصارعون كما نفعل نحن، ولا يستنزفون مقدراتهم عُشر ما نفعل نحن بثرواتنا ومُقدراتنا! ولا يُمكن أن نعزوا ما يحدث لقلة الإيمان والدين، فهناك من الدول الوثنية ودولاً فصلت الدين عن الدوله ممن هم أكثر منا تطوراً وإحساساً وطنياً بكثير!! ولا يُمكن أن نربط ما يحدُث بمؤمرات خارجية، فنهاك دولاً تكالب العالم عليها ولم يستطيعوا أن يتدخلوا في نسيجها المجتمعي ويؤثروا فيه سلباً! إنما عِلَّتُنا فينا نحن! نحنُ من أثرنا المشقة على الرخاء ودعونا ربنا أن يشردنا في الماضي، ونحن الأن من نستكثر على أنفسنا الأمن والأستقرار فنضرب مصالحنا الحيوية ونهدم سقف البيت على رؤسنا بأيدينا! نحن المتفككون داخلياً، من ننتظر إدنى فرصة لنضرب بعضنا بعضاً! نحن من تربينا على المصلحة الفردية وتناسينا المصلحة المجتمعية، ومن ننتظر أي فرصةٍ لنبلعَ كل شيء ونترك غيرنا من دون شيء! ثقافة الفيد، وثقافة الأنا، وثقافة المال العام المنهوب هي التي تُحرك غرائزنا للأسف، وهي التي توارثناها جيلاً بعد جيل! لن يستقيم حالنا، مهما جاءت حكومات، ومهما اكتُشفت ثروات، ومهما تغيرت الدساتير، ومهما قامت الثورات وأكلتها الجماعات! لن يستقيم حالنا إلا إذا أنشأنا جيلاً جديداً يتربى على غير المفاهيم والقيم التي تربينا عليها! جيلاً يؤمن بالله أولاً وبالوطن ثانياً وبالمجتمع ثالثاً، ويؤمن بأن الفرد جزء لا يتجزء من مجتمعه ووطنه، وأن الأرض لله وحده، وأن الوطن للجميع، وأن ثروات الوطن حقٌ لأبناء هذا الوطن جميعم دون إقصاء أو تفضيل! فهل نستطيع أن نُربي جيلاً جديداً على هذه القيم، أم أن فاقد الشيء لا يُعطيه كما يُقال!! * عضو المجلس العالمي للصحافة