ايام عصيبة وليال كئيبة عاشها الجنوب جراء الاجتياح الغاشم لمليشيات صالح والحوثي، ونتيجة خيانة الكثير من ابناءه الذين باعوه بثمن بخس وكانوا فيه من الزاهدين، فكانوا شركاء في الحرب عليه وشركاء في استباحة كل ما فيه، فلم تمر ايام بعد تطهير الجنوب من مليشيات الحوثي وصالح حتى خرجت اصوات تشكوا التوزيع غير العادل للمعونات والمواد الاغاثية والتي تلاعبت بتوزيعها جماعات مطعون في نزاهتها، واصوات تعترض على حرمانها من حق التجنيد ومنعها من الانخراط في صفوف الجيش والامن الجنوبي -الذي بدأت خطوات اعداده وتجهيزه على الارض في عدن-، هذه الاصوات تتهم الجماعات التي أُوكلت اليها هذه المهمة بنهج طرق غير شفافة في عملية التجنيد واختيار المجندين، وذلك بحسب شهود ممن حرموا من هذا الحق، وفي محاولة للتهدئة ولملمة الجراح التي لم تندمل بعد نؤكد على حق كل المتضررين في الحصول على المعونات والمساعدات الممنوحة من الاشقاء والاصدقاء دون أي اعتبارات مخلة، كما نؤكد حق من لديه الرغبة في الالتحاق بالتجنيد ان يحصل عليه وفقا للشروط الفنية والصحية والعسكرية المطلوبة توافرها، كما ان العملية لن تخلو من المناطقية والفئوية والشللية باعتبار هذه السلبيات ارث قديم تتوارثه الاجيال في ظل غياب سلطة القانون. بينت الايام القليلة الماضية وضعية الجنوب على انه بلد لن يستقر وستسوده التناقضات السياسية والأيديولوجيات القاسية وليدة التجربة، ولعل ما يجري خلف الكواليس وفي مراكز التجنيد من احداث وتصرفات –ان تأكد ذلك- وما يصاحبها من ازمات -لم تطفو على السطح بعد- إلا تعبيرا عن توتر لا ينبغي تجاهله، ينذر بدخول البلاد في المجهول ومخاطر الفوضى، كما افرزت وضعا غير مطمئن تنام في اعماقه عاصفة شديدة تترجمها عدة ظواهر ابرزها غياب المسيطر الفعلي على مفاصل البلاد الامنية والعسكرية والمدنية، بالإضافة الى ملامح ظهور جماعات مسلحة غير معلومة الولاء، وما سيرافق ذلك من تحولات بنيوية في طبيعة الحكم ستؤدي لا محالة الى تبلور طبقات سياسية منفصلة عن المجتمع نفسه، ومنها ستولد ازمة ثقة بين المواطن والنخبة وفقدان الثقة بين النخب وفقدان الثقة بين المكونات. لقد اضحت ازمة الشرعية في الجنوب هي محور الصراع –المكبوت- وسبب استمراره بين اغلب المكونات الجنوبية فما بين مؤيد للشرعية الدستورية والقانونية وبين مؤيد للشرعية الثورية، وهو ما يترجمه التنافس المحموم بين الحراك الجنوبي السلمي وحزب الاصلاح مما يهيئ دخولنا في اتون صراعات غير واضحة النتائج, تعكس هوة بدا من الواضح انها ستؤدي الى فصل المقاومة الجنوبية عن السلطة، فما يلوح في الافق ان هناك ترتيبات غير شفافة لسحب البساط من تحت اقدام الحراك الجنوبي الذي قدم خيرة رجاله فداء للوطن والتراب الجنوبي، وحرمانه من أي سلطات مدعومة بالقوة على الارض، اذ ادى وجود القوى السياسية الاخرى المنافسة الى جعل الموقف مختلف مما سيجعل أي توافق سياسي امرا بعيد المنال. لاريب ان الظروف الامنية المتردية في الجنوب وخاصة بعد تحرير عدن ودحر مليشيات الحوثي وصالح ستغري جماعات العنف المسلحة بالظهور واكتساح الساحة على حين غرة من طلائع المقاومة الجنوبية، فقد وفرت فترة الحرب وما بعد التحرير محفزات عديدة ستساعد –لا سمح الله- في ظهور هذه الجماعات وتنامي دورها في المشهد السياسي والامني الجنوبي في القريب المنظور، مما سيجعل ارض الجنوب الحاضنة الرئيسية لاستقطاب الجماعات المتشددة التي تنتمي الى الفكر المتطرف مثل القاعدة وداعش والاخوان المسلمين، فجميع حدود الجنوب مازالت مكشوفة ولن تؤمن في وقت قياسي وهو ما سيوفر بيئة مساعدة لتلقي الدعم من الدول التي لديها توجه الى ابراز مثل هذه التيارات، وسوف يتعثر المسار الديموقراطي الذي يأمله الجنوبيين. المخيف اكثر في المرحلة القادمة هو ظهور مثل هذه القوى، فمن خلال قراءتي للأحداث المنصرمة والحالية اقول ستظهر في الجنوب الكثير من القوى المتنافسة والتي ستتوزع بين -قليل- من التنظيمات السياسية و-كثير- من الجماعات المسلحة التي تتفاوت في توجهاتها الايديولوجية ومواقفها الفكرية، اضافة الى ما يعرف عن مثل هكذا تنظيمات او مليشيات رفضها للمنظور الوطني للدولة ومدنيتها، وستفرض سيطرتها ووجودها بحسب قدراتها العسكرية، وستكون اكبر عائق امام عملية بناء الدولة مما سيعيد تكرار سيناريو ليبيا. ما اسلفته ليس تشاؤما او عملا استخباراتيا، وإنما تفسيرا منطقيا لما شهدته وتشهده مدن الجنوب من احداث مفجعة، حيث ساهمت الخيانة وما زالت وستساهم في حدوثها بالإضافة الى التصاقها بعوامل واعتبارات داخلية مثل القبلية والمناطقية بصفة خاصة، وهي اهم العوامل التي تساعد على نشوء تشكيلات وجماعات تنتهج العنف والفوضى في ترجمة غير منصفة لمظالمها ومطالبها. كل هذا –اذا لم يتداركه العقلاء- سينتج مجتمعا مقسما، تسوده هشاشة مؤسساتية وقلق على المستقبل، مع غياب مرجعية متفق عليها، وفي ظل طبقة سياسية تتصرف بناء على مصالحها الضيقة، وهي الارث الذي خلفه نظام صالح حين كانت البلاد بحاجة الى دولة المؤسسات الديموقراطية الحديثة والمجتمع المدني، بعيدا عن المحاصصات المناطقية والفئوية، استبدلها بالعصابات التي تمارس عمليات التخريب الى اليوم، باعتبار ان ذلك جزء من سيناريو تشويه المطالب العادلة للجنوبيين وقضيتهم. ان عملية الانتقال الديمقراطي تتطلب بيئة اجتماعية حضارية ترفض همجية العنف لمصلحة التعامل السلمي، وترفض التفرد بقرار التعددية، وتقوم على بناء دولة القانون ذات المؤسسات السياسية والاجتماعية القوية، التي تخدم ارادة الشعب من خلال تكريس التعددية السياسية ومبدا التداول السلمي للسلطة، لكننا في تجربتنا نفتقد مثل هذه السياسة حيث شهدت البلاد كلها الصدامات المسلحة بين مختلف الجماعات التي كانت توحدت في مواجهة نظام صالح ومليشياته. مهم جدا .. تطبيق معايير نزيهة وشفافة لتنظيم عملية التعدد السياسي من اجل الوصول الى تعددية حزبية حقيقية وخلق واقع ديمقراطي يتجاوز كافة الاحقاد ومخلفات الماضي، واعتماد خطاب اعلامي وسياسي يقوم على العقلانية ويعتمد على مبدأ المواطنة يعمل على نشر روح التسامح ونزع أي مشاعر للكراهية وتعزيز رؤية التعايش المشترك في اطار احترام التباينات واختلاف الأفكار، كما يجب الحرص على عدم تدخل القوى الخارجية الاقليمية والدولية في سياسات البلاد بما يسهم في تحقيق السيادة الوطنية والاستقلال السياسي. في الاخير يجب التأكيد على خلاصة مفادها: ان ما شهدته البلاد من صراع سياسي واحتراب داخلي غير مبرر، وحروب لا تخدم السيادة الوطنية، وما نتج عنها من تدمير كلي لمؤسسات الدولة وهيئاتها، انما كان بسبب غياب القادة الملتزمين بالديموقراطية كخيار ثابت وحق طبيعي للشعب، فيما ارتفع عدد الحوادث المرتبطة بهذا الصدام والصراع على الموارد والوظائف والزعامة، فلم تعكس الطبقة السياسية الموجودة حاليا ما يمكن ان نسميه التوجه المجتمعي العام، بل ما زالت تعبر عن توجهات مختلفة ونزعات متعلقة بالوصول الى السلطة تغلب عليها روح تحقيق مكاسب ذاتية، كما انها تعبر عن مصالح فئوية متنوعة المكاسب وهو ما يرسخ القبلية والجهوية والفئوية وغيرها من الممارسات بما يؤدي الى المزيد من الانقسامات، مما يجعل الطريق الى الاستقرار متعثرا ومليئا بما هو اكثر من العقبات والتحديات. انطلاقا من المسؤولية الوطنية .. يجب بذل المزيد من الجهود لتفادي الوقوع في ازمات معقدة ومن اجل عودة الهدوء والسكينة الى المشهد السياسي والامني في البلاد، والعمل على لم الشمل بين كافة التيارات وفرقاء السياسة، ودعوة كل الاطراف الى حل أي نزاعات عبر الحوار وبما يسهم في الحد من عبث وفوضى جماعات العنف والإجرام، والعمل بشكل جاد في تقديم التنازلات والتوافقات والتي بلا شك ستكون صعبة في حال تراكمت الممارسات السلبية من جميع الاطراف ضد بعضها، ولن يتأتى ذلك الا بتوافر ارادة سياسية لدى كافة الاطراف تتبلور في اطار بناء دولة المؤسسات، والاهتمام بمحاربة الفساد والافساد والارتكاز في ذلك على بناء مؤسسات قانونية وامنية وفق اسس وطنية بعيدا عن الولاءات الضيقة والمصالح الفئوية والمناطقية اللامسئولة، كما يجب بناء جيش وطني حقيقي غير مرتهن لأي طرف، يحمي الوطن والمواطن ويدافع عن السيادة ويذود عن الكرامة، فالأيام القادمة –بالتأكيد- سوف تكون اصعب.