هناك امور كثيرة في الحياة نعرف تعريفها و لكننا لا نفهمه حتى نجربه بأنفسنا. مثلا: كلنا نعرف ان المرض حال مؤلم ، محزن و لكن عند تجربته ندرك انه يشمل في ثناياه مشاعر اصعب بكثير من مجرد الألم او الحزن. انه يشمل شعور بالذل لأن المرض ُمذل. يشمل كذلك علاقة قوية بالله لكونه رب الشفاء. يشمل ضعف ، عزلة، وجع و يشمل اشرس مبارزة بالسيوف بين المريض و الموت. كل طرف يتوعد الثاني " سنرى منيغلب." او الفشل مثلا في الحياة العملية او الحياة الزوجية كلنا نعلم انه حال مؤلم ومحزن. لكن حين نجرب الفشل ندرك انه يحتوي على مشاعر اقسى بكثير من مجرد الحزن او الألم. انه يتضمن محاسبة النفس و تأنيبها. يتضمن معاتبة الأخرين. يتضمن شعور بالخسارة دون مباراة. يتضمن هزيمة. كذلك نهايته دائما أمل بتجاوز العثرة و التقدم نحو المستقبل. او فراق الأحباب و الأصدقاء كلنا نعلم انه حال مؤلم و محزن. لكن فقط من جربه يعي تماما انه اكثر بكثير من مجرد حزن او ألم. انه يحتوي على كم مهول من الوحدة و سرعة الجرح. يحتوي على رغبة في مد اليد للتسول. يا محسنين لله ، صديق لله. انه شعور جامح يهزنا كأنما الفراق تجمع ليكون رياح عاصفة خلف ظهورنا العارية في عزالشتاء. كذلك كلنا نعرف ان الغربة كربة و عز المواطن بلاده. ان بؤس الوطن اهون بمراحل من امان و بذخ و راحة الغربة. كلنا نجزم بذلك. لكن فقط من جرب الغربة هو من يدرك ان ليس كل ما يبرق ذهب. مرات نعشق الصفيح الصدئ! يكتشف الانسان حين يغترب اكتشاف صادم و هو انه يتيم و لوكان والديه على قيد الحياة. شعور افتقاد الأب و الأم هو فحوى الغربة. انا مثلا ها هو أبي و هذه أمي لكنني في غربتي أشعر باليتم ، بل و اتقمص روح اليتيم فأبكي في عيد الأم. الغربة أسد يزأر خلف الشجرة ينتظر مروري لينقض علي. ليس معي سلاح و لا عصا حديد. لكن تحتوي الغربة ايضا على عزيمة و ارادة قوية. مثل عزيمتي الأبية. لن اكون فريسة اليتم و لن القي بنفسي في درب الغربة ضحية. بل سأنجح. سأشتري ثياب جديدة. سرير جديد. تلفزيون جديد. و جدران غرفتي سأغطيها كلها بصور سواقي وادي بناء و بالمدرجات الزراعية. أنا مغتربة لا أنكر لكنني سأكون ناجحة و سأبني و اضمد الجرح. في داخلي حفرة سأعبيها بخططي و احلامي و سألونها كلها لتكون وردية. لا أنكر ها هنا في احشائي حفرة. سوف أعبئها تربة و ماء و شمس و سأسقيها لكي تحوي احشائي اليمن. وطني مسكين ، ُيقصف من سماءه و على أرضه تمنع عنه التنفس قوات همجية. انا يمنية في الغربة اسميتني " أسير". الشعب كله معي في الأسر ، كلنا مأسورين سوية. خرجت من شقتنا الى الحديقة المجاورة لعمارتنا لأتمشى. تمشيت ببطيء على الممرات المرصوفة بالحجر الأسود و العشب الأخضر يغطي كل الأرجاء و الزهور المنسقة حسب الوانها. مشيت ببطيء شديد. مثقلة باليمن الذي لم يعد الأن سعيد. رأيت مقعدا خشبيا طويلا من تلك التي يوزعها الاوربيون في حدائقهم للراحة و التأمل. جلست على اقربها و انا الهث. استغربت لما الهث و انا اساسا لم اعدو. تذكرت انني لم اعدو صحيح لكنني الهث منذ فررنا من اليمن ، رحلة البر الشاقة ثم النقاط و الخوف و اصوات الطائرات. اما هذا المنظر الخلاب الذي يحيط بي فلم ار مثله في اليمن. لكن كما اسلفت انا انسانة لا احب ذهب الناس و احب اليمن و لو كانت كيف ما كانت. هربنا قبل سنتين من اليمن . لازلت الهث حتى اللحظة. هربنا من قسوة اليمن حين ُتقصف و ُنقصف ونحن عزل. هربنا في ذلك اليوم من وحشة الخوف من الموت.حيث يموت الأطفال الأبرياء في لحظة. تلفت حولي في الحديقة. رأيت ام اوروبية شابة تدفع وليدها داخل عربة. رأيت سيدة مسنة شعرها بنفسجي تقرأ صحيفة. رأيت اطفال يتلاحقون ، يضحكون ، يختبئون خلف شجرة. ذكرت انني اختبأت تحت الطاولة حين سقط صاروخ قريب من منزلنا اخر مرة. هكذا ذكريات اليمن كلما نويت ان اخرج لنزهة، تهاجمني فتبكيني كل مرة. هناك ناس يقوون على الاغتراب و ناس تحتضر بالغربة. هكذا انا و انا حرة! رأيت في اقصى الحديقة تجلس شابة سمراء بحجاب اسود و الى جانبها سيدة متقدمة في السن تلف شيبها بمقرمة سوداء ابو خط احمر. قفزت سائرة في اتجاههن. اقتربت منهن و قلبي يهتف. سألت الشابة :-" الأخت من اليمن؟" ابتسمت لي بقرف. لعلها توهمت انني حوثية. هزت رأسها بالإيجاب. كانت المقرمة ابو خط أحمر جواز سفر. اضفت سؤال أخر :- " والدتك؟ ما شاء الله . الأمهات بركة." اجابت و هي ترمق السيدة المسنة شزرا :- " عمتي. والدة زوجي." ثم نفخت صوب السماء. لعل خدمة السيدة الكبيرة هذه تنهكها. لكن لست ادر لما اقتربت انا من السيدة المسنة هذه واحتضنتها ، وضعت رأسي على كتفها. امسكت يدها. قبلت جبينها. في الغربة تكون الأم وطن. هذا مما لا نعرفه الا حين نخوض تجربة الاغتراب. اضافت الشابة و هي ترقبني باستغراب : -" اتيت بها هنا لتودع الحديقة ، ستعود الى اليمن بعد 3 ايام." قالت ذلك و رفعت يدها الى اسفل انفها و حركت لسانها حركة الزغردة. كانت الشابة قليلة أدب و وقحة! قلت لها :-" ما شاء الله ، ليتني ارجع." قالت الشابة :- " لا يطيق الاقامة في اليمن الا انصار الحوثي. هل انتِ حوثية؟" لم اجبها لأنني لا اعرف كيف يجيب الناس على الوقحين. قلت للشابة :- " امانة كلميني عندما تجهزون حقيبة سفرها و تعطفون ثيابها . سوف أتي و اعطف نفسي بنفسي لأكون ثوب داخل الحقيبة. سأسافر معها." حدقت الشابة في وجهي بريبة و سمعتها تتمتم :- " لا حول و لا قوة الا بالله." رمقتني كمن يرقب فاقد لقواه العقلية. انا لست فاقدة للعقل بل في كامل قواي العقلي لكنني فاقدة لليمن. هذا كل ما في الأمر! عدت الى شقتي بعد ان ودعت السيدة المسنة و اخبرتها انني سوف اساعدها في ترتيب ثيابها داخل حقيبة السفر. عدت الى عمارتنا المجاورة للحديقة، دخلت شقتنا. رائحتها غربة. وقفت عند النافذة اطل على حينا. المنظر غريب اشعرني بالغربة. ليلا عندما اتوسد وسادتي تغرز الغربة مخلب في خدي لأن رائحة وسادتي غربة.. اذا تكلمت لا اسمع صوتي لأن في غربة. اريد صديقاتي في اليمن لأقول لهن هيا نخرج اليوم ، او جين عندي ، او شلوكن. اشتقت لاحاديثنا و ضحكاتنا. كل الكلام هنا غربة. حتى لغتي لا استطيع التخاطب بها و اذا قابلت عرب لكنتي لا استخدمها لأنهم لن يفهمونني. غربة يا ناس غربة. في تلك الليلة نويت أن اتحول الى ثوب و اسافر داخل حقيبة السيدة المتقدمة في السن التي قابلتها في الحديقة. سأكون جلابية قطيفة سوداء ، على صدرها شغل بفتلة حمراء و في طرفي كميها خرز احمر كالمرجان. رائحتي ستكون شذاب و ريحان. سافرت السيدة و سافرت انا معها لكنني كنت ثوب قطيفة داخل حقيبتها. هبطت الطائرة داخل القاهرة. ثم رحلة اخرى من القاهرةلعدن. ثم رحلة البر من عدن الى صنعاء. شاق السفر و متعبة المسافات حين تكون " انا" داخل حقيبة سفر. في مقر توقف الباصات جاء ابناء و بنات هذه السيدة لاستقبال والدتهم. احضان و قبلات ودموع. تحركنا بالسيارة ، قطعنا الشوارع و فتحت عيني. الشوارع من اولها لآخرها صور شهداء. من قتل كل هؤلاء الشباب؟، مساكين ، قالوا لهم دافعوا عن اليمن فهبوا للجبهات. ثم عادوا في صناديق ليجدوا الدولة تفتتح مشاريع كلها مقابر . مساكين . استخدموهم لمصلحتهم و لبقائهم اما اليمن فلها الله. في جدران الشوارع عبارات كثيرة ، عن الاسلام و علي بن أبي طالب. من قال ان اليمنيين اسلموا قبل 4 سنوات ؟ اليمن مسلمة منذ الاف السنين. مالكم ؟ مالكم اجيبوا على هذا السؤال . في الطريق الى منزلهم كانوا يلعنون الوضع الحالي و يدعون على من تسبب فيه. عند توقفهم في نقاط يصمت الجميع. ارهاب على الأرض و قصف من السماء. ومجدوا قتيل وجعلوا من قبره مزار و ألهوا صريع! وصلنا، طبخن البنات فول وتجمعوا يتعشون. رائحة الفول ، القشر ، الخبز و الزحاوق ابكاني. بعد العشاء قامت احدى البنات بفتح شنطة والدتها و بدأت برصف ثيابها في دولابها. وجدتني. الجلابية السوداء القطيفة. امسكتني و قد تبللت من طيلة النحيب و البكاء. قالت لوالدتها متوعدة :- " مالها زوجة اخي وضعت لكم هذه الجلابية و هي مبللة هكذا داخل الحقيبة. انا ارويها!" اخذتني و نشرتني على حبل غسيل في حوش منزلهم. شممت هواء الليل في صنعاء. بكيت فمااكتفيت. و بعض البكاء دواء. دخل الجميع غرف نومهم. نامت البنت الى جانب امها من شدة الفرح بعودتها. اما انا فظللت فوق حبل الغسيل و لم انشف ابدا. اطفأوا الانوار و انا ابكي . اكتشفت وانا الوح فوق حبل الغسيل مع نسائم ليل صنعاء العليلة ان الغربة في الوطن افدح من الغربة عن الاوطان. حين نام الجميع ، صحوت انا. لأجد نفسي في غربتي. غربة شرعية بثمن. لكن ان اغترب و انا يمنية في ربوع اليمن فهذا مما لا يطاق و لا يحتمل. يا يمن ، هل تسمعينني؟ اغتربنا ونحن في حضنك يا يمن. هل تسمعينني يا يمن؟