الروائي والقصصي اليمني المثير للجدل وجدي الأهدل بات له أسلوبه الخاص في الكتابة، وهو يعتمد على الدعابة والسخرية، وكتابته الجريئة لم تنج من سيف الرقيب الذي يحاول منعه من السفر، إضافة الى ذلك تُرجمت روايته «حمار بين الأغاني» الى الإيطالية. مع هذا الروائي المثير للجدل الحوار التالي. بعد كم من الكتب المثيرة للجدل «والنجومية الثقافية» والمنع من السفر والجوائر الكثيرة والترجمات، كيف يعرّف الروائي وجدي الأهدل نفسه وماذا غيرت الكتابة والكتب في حياته؟ ثمة كتاب لكارل غوستاف يونغ عنوانه «شخص يبحث عن نفسه»، وأعتقد أن كلامه قريب من مساري في الحياة، وقد ساعدتني الكتب والكتابة في رحلة البحث عن الذات. هل السخرية دافعك الى الكتابة أم هي إحدى وسائل التعبير؟ إذا دخل طفل في مواجهة مع مصارع عملاق فماذا ستكون النتيجة؟ منطقياً سيُهزم، ولكنه إذا استخدم أسلوب السخرية من خصمه فإنه سيجعله أضحوكة في أنظار الناس ويفقده هيبته. هكذا تفعل الكتابة الساخرة في مواجهة سلطة قمعية قاهرة. ماذا يعني أن الكاتب يسيء الى سمعة بلاده، هل هذه البلاد فتاة عذراء تشوّه سمعتها؟ رجال السياسة على حق يا أخي، فنحن الأدباء «أولاد كلب» نحشر أنوفنا في كل شيء، وخصوصاً في مسألة الفلوس... مثلاً، لو قلت إن اليمن كانت في سبعينات القرن الماضي دولة غنية وقدمت قروضاً للدول الأوروبية ومنها فرنسا، فيما هي اليوم إحدى أفقر دول العالم وخزينتها خاوية، أليس هذا دليلاً دامغاً على صدق كلامهم؟ بالتأكيد، أنا أشوّه سمعة بلادي عندما أقول هذا الكلام، وكان من المفترض بي إذا أردت أن أكون كاتباً مخلصاً للوطن أن أزعم بأن خزينة البلاد خاوية بسبب الاستعمار البريطاني الأمبريالي الذي نهب خيرات اليمن منذ القرن التاسع عشر وحتى ستينات القرن الماضي، وأن اليمن ما تزال تعاني من آثار هذا النهب الجائر حتى اليوم، وربما لقرون مقبلة عدة. الآن بعد «هدوء العاصفة»، ماذا تقول لوزير الثقافة اليمنية الذي صرّح بكلام ضدك واتهمك بالإساءة الى اليمن؟ ذاك الوزير تم تغييره وخلفه وزراء آخرون. اليوم وبعد مرور ثماني سنوات (2002 2010) وتفجّر حركة التمرد الحوثية في الشمال، وتصاعد الحراك الانفصالي في الجنوب، بات واضحاً من الذي يسيء الى اليمن، ويجعلها ريشة تتلاعب بها رياح العنف والحروب الخاسرة. هل دفعتك الحملة عليك الى مزيد من الجرأة الأدبية أم الى التراجع والرقابة الذاتية؟ الحملة الشرسة التي تعرضت لها في عام 2002 بسبب رواية «قوارب جبلية» جعلتني أشعر بأن الرقيب الداخلي صار متجسداً في هيئة جنّي يجلس بجواري عندما أكتب، وأشعر به يلكزني عندما أشطح في قول ما لا يقال. لكني على رغم ذلك قلت ما أريد قوله في أعمالي التالية، على رغم ممانعة الجني ورغبته في أن تبقى يدي مغلولة. ماذا يعني لك أن تكون مترجماً إلى الإيطالية أو إلى أي لغة أخرى في العالم، وبرأيك ما الذي دفع الناشر الإيطالي الى اختيار روايتك تحديداً؟ هل هي الضجة التي رافقتها أم الموضوع الذي تناولته؟ تعطي الترجمة مؤشراً معقولاً حول جودة العمل الأدبي. وكما تعلم يا أخي محمد أن المعايير النقدية في عالمنا العربي مختلّة، والأحكام الأدبية تسودها المجاملات وعلاقات المنفعة! أما سبب اختيار الناشر الإيطالي رواية «حمار بين الأغاني» فيعود إلى النقد السياسي والاجتماعي الذي احتوته ضمن قالب بوليسي، وليس إلى أي سبب آخر ، فهذه الرواية لم تثر حولها أية مشاكل. لديك مجموعات قصصية وروايات كثيرة، لكن بالنسبة الى قراء عرب كثر بل والى الكتاب فيعرفونك بأنك صاحب «قوارب جبلية» و{حمار بين الأغاني»، وربما لا يعرفون أي كتاب آخر لك، ما سرّ ذلك؟ السر يا عزيزي يعود إلى أن الروايتين المذكورتين طبعتا في بيروت (رياض الريس) ولذلك حققتا انتشاراً وكانتا متوافرتين للقارئ في معظم الدول العربية، أما كتبي الأخرى التي طبعت في صنعاء فقد نامت نوم أهل الكهف في المخازن. وهذه ليست مشكلة كتبي فحسب، بل مشكلة كل الأدباء اليمنيين الذين يطبعون كتبهم في اليمن، إذ لا تتوافر آلية لتوزيع الكتب مطلقاً لا خارج اليمن ولا حتى داخلها ، ويتساوى في ذلك ما تطبعه مؤسسات الدولة أو القطاع الخاص، وهذه المشكلة الصغيرة تدلل على العزلة الرهيبة وحالة الانغلاق التي تعانيهما اليمن في هذا العصر. هل أنت مع نظرية أن الرواية الجيدة هي «الرواية المملة» أي التي لا يستطيع القارئ إكمالها أو يجد صعوبة في متابعة جميع فصولها، تماماً كما هي الحال في رواية توماس مان أو غونتر غراس أو مارسيل بروست؟ لدي اعتراض على وصف بعض الروايات ب «الممل» . المهم هو جودة العمل الأدبي، وأنه نص إنساني عميق يمسّ جوهر وجودنا. الكتب المقدسة مثلاً، تبدو لي «مملة} ولكن المليارات من البشر على رغم ذلك لا يشبعون من قراءتها يومياً. إنهم يقرأونها ويعيدون قراءتها لا بحثاً عن التشويق، ولكن لأنها تحفظ لهم توازنهم النفسي وتعطيهم فهماً وجواباً عن دواعي وجودهم في هذا الكون الشديد الغموض. هل قبح العالم ومأساته يشكّلان الطريق المعبّد الى جمالية الكتابة؟ العالم ليس قبيحاً ولا مأساوياً، إنه محايد. لكن الإنسان الذي يمر بتحولات ما بين لحظة وأخرى هو الذي يرى العالم تارة قبيحاً ومأساوياً، وطوراً جميلاً وساراً. الفنان الذي يرسم منظراً طبيعياً يعرف أن هذا الأخير يظل أفضل بكثير من لوحته، ولكنه يدرك أن في روحه حاجة ماسة إلى التفاعل والانفعال مع هذا المنظر، وبالتالي يشعر بأنه قد تشارك معه في خلق الجمال، ونحن عندما نشاهد لوحته نشاركه في خلق جمال المنظر الطبيعي. هل تعتبر أن فن القصة القصيرة أصبح مهمشاً والمجد الآن لزمن الرواية؟ كلامك صحيح. فن القصة القصيرة توارى كثيراً عن مشهدنا الأدبي المعاصر، مع أن هذا الفن الذي يبدو بسيطاً في الظاهر ينطوي على جماليات فنية ضخمة، وهو بحاجة إلى نوعية من القراء تملك ذوقاً مرهفاً وإحساساً عالياً، لكي تقدر هذا الفن حق قدره. تقول في حوار صحفي إن «الكتابة عمل ثوري، تمرّد على الأشكال الثابتة كافة»، ألا تعتبر أن هذا التعريف يضعك في دائرة النمطية والنطاق الضيّق؟ العكس هو الصحيح. عالم الكتابة فضاء مفتوح، وما علينا إلا التخلّص من أغلال الأشكال السابقة وأنماط الكتابة السائدة. كيف تقيّم {بيروت 39}، ألا تلاحظ أنها جزء من فساد الثقافة العربية؟ لا أتفق معك في هذا الرأي، فبيروت 39 ليست نهاية العالم، ولا حكماً نهائياً بأن الذين لم يحالفهم الحظ بالفوز سيخرجون من جنة الأدب إلى الأبد! من المؤكد أن ثمة أسماء أدبية كثيرة تستحق الفوز، ولكن في النهاية كان على لجنة التحكيم أن تختار العدد المحدّد. وحتى هؤلاء الفائزين ال 39 سيكون من الغباء إذا اعتقدوا أن «أفضليتهم} ستظل مستمرة وملازمة لهم. فالزمن يجري والتحولات تحدث يومياً، وأي واحد بإمكانه إذا اجتهد وقدّم عملاً أدبياً لامعاً أن يجد فرصته أيضاً، وقد تكون أعظم بكثير من فرص ال 39 فائزاً. هل للشاعر أو الروائي طقوس خاصة في اليمن تختلف عن طقوسه في بيروت أو بغداد أو القاهرة؟ نعم، أدباء اليمن في معظمهم يكتبون أعمالهم الأدبية وهم يمضغون «القات» وليس بالضرورة أن يكونوا وحدهم في غرف مغلقة، بل قد يكتب أحدهم نصاً وهو في مقيل مكتظ بالأصدقاء. تخزين القات يتطلب الجلوس ساعات طويلة، وقد يساعد هذا إلى حد ما في الإمساك بخيوط الكتابة. أين تكتب، متى، ولمن؟ أكتب في غرفة مغلقة، أو في مقهى هادئ. وأفضل أوقات الكتابة صباحاً عندما يكون الذهن صافياً بعد الاستيقاظ من النوم. أكتب لأجل أولئك الناس الذين يعزلون أنفسهم عن العالم ساعة أو ساعتين يومياً بحثاً عن المسرة بين دفتي كتاب.