انهار نظام معمر القذافي بسرعة بعد الصراع العسير المستمر لمدة نصف السنة مع المعارضة, على خلفية موجات احتجاجية عارمة مناهضة للحكومات اجتاحت منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا. وخلال الاشهر التسعة الماضية, شهدت منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا, من تونس الى مصر, ومن اليمن الى سوريا, فوضى كبيرة واضطرابات مستمرة وتغيرات عميقة, بحيث تشتت النظام القديم في الشرق الاوسط , ولم تتجل صورة النظام الجديد بعد. تمر المنطقة كلها بلحظة تاريخية فارقة من التحولات الجذرية والمطولة ، على الرغم من ان هذه الازمة الكبرى في الشرق الاوسط تجرى حاليا, لكن بلا شك ان هذه الازمة سوف تؤثر على تشكيلة العالم في العقد الثاني من القرن الجديد. تغيير لا يقاوم اعتبارا من بداية عام 2011, شهدت منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا تغيرا مبهرا وعميقا ففي يوم 14 يناير الماضي, فر الرئيس التونسي زين العابدين بن على بعد 23 عاما من حكمه للبلاد الى المنفى على عجل. وفي يوم 11 فبراير الماضي, أضطر الرئيس المصري محمد حسني مبارك الذي حكم البلاد لثلاثة عقود, على الاستقالة من منصبه بشكل غير شريف. وفي يوم 4 يونيو الماضي, غادر الرئيس اليمني على عبدالله صالح, الذي يتولي الرئاسة منذ 33 عاما, البلاد متوجها الى السعودية لتلقى العلاج من جروح اصيب بها في هجوم شنه المتمردون على قصره الرئاسى بقذائف هاون. وفي 22 أغسطس الجاري, انهار نظام العقيد معمر القذافي الذى حكم ليبيا 42 عاما, ويقوم الثوار حاليا بملاحقته في طرابلس. ان هؤلاء القادة جميعا ولدوا فى اسر فقيرة, وذاقوا مرارة الحياة وصعابها منذ الصغر, وخدموا جميعا في الجيش قبل ان يعتلوا مقاعد السلطة مدعومين بالقوات. وفي الايام الاولى من حكمهم, وعد الزعماء السابقون لشعوبهم بإقامة دول تتمتع بسياسات حكيمة وازدهار الاقتصادي من اجل نيل ثقة واحترام وحماسة وتوقعات شعوبهم, لكن معظم وعودهم ذهبت هباء ويبدو كأنها قلعة في الهواء لم تتحول الى واقع على الاطلاق . فبدأوا تدريجيا يفقدون حماستهم السياسية وتجاهلوا طلبات شعوبهم وترددوا في اجراء المزيد من الاصلاحات . ومع مرور الزمن, فقدت الانجازات السابقة التى حققها القادة بريقها. وضعفت حكوماتهم بالفساد المتزايد, وترنحت بلادهم وراء عجلة العالم المتسارعة, وكبر الصغار واصبحوا كبارا دون ان يجدوا فرص عمل كافية، لينفذ تدريجيا صبر شعوب هذه الدول التى كانت تتوق لحياة افضل. وسبق ان حذر العديد من السياسيين والعلماء والخبراء على مدار سنوات عديدة من فتح "علبة باندورا" وتفشى مختلف الشرور مثل التطرف الديني والارهاب البغيض والفوضى الواسعة فى حال تمزق النظام القديم فى الشرق الاوسط وشمال افريقيا. وكانت تستخدم تحذيراتهم احيانا فى قمع المعارضين، بيد ان شعوب المنطقة فقدت الصبر والثقة فى نهاية المطاف في قادتهم الذين اختاروا العيش بعيدا عن شعوبهم والعزلة عن هذا العصر. وكان البائع التونسى الشاب الذى حرق نفسه بمثابة القشة التى قصمت ظهر البعير مثيرا عدوى الاحتجاجات المناهضة للحكومات في المنطقة. لم يكن ذلك متوقعا, لكن لم يأتى قطعا من فراغ . ففي مطلع العقد الثاني من القرن ال21, بدأت عجلة التاريخ في الشرق الاوسط وشمال افريقيا فى الدوران فجأة وبسرعة مدوية بعد فترة طويلة من التباطؤ لتهز العالم. تدخلات خارجية تعد المنطقة المصدر الرئيسي للنفط في العالم وتقوم بدور هام في الجغرافية السياسية الدولية. وقد تخللت مختلف القوى السياسية الخارجية, فور اندلاع الاحتجاجات والاضطرابات , الى المنطقة بعمق لاغتنام مصالحها. وتشهد ليبيا الآن النسخة الحديثة ل((قصة مدينتين)) حيث تقع اكبر مدينتين طرابلس غربا وبنغازى شرقا على الساحل الجنوبي للبحر الابيض المتوسط. ومنذ اكثر من ستة اشهر, يقاتل معسكر القذافي الذي يتخذ من العاصمة طرابلس شمال غرب البلاد مقرا له, المعسكر المناهض المدعوم من قوات حلف شمال الاطلسى (الناتو) فى مدينة بنغازى الواقعة شمال شرق البلاد . لقد اغلقت الحرب الاهلية القاسية جميع حقول النفط في ليبيا تقريبا, مما ادى الى شلل العديد من البني التحتية وسقوط الكثير من الضحايا, وتدفق عدد لايحصى من اللاجئين الى الدول المجاورة او اوروبا. والوضع فى اليمن ليس افضل حالا , اذ ما زال مسلحو اكبر القبائل في البلاد يواجهون ببسالة القوات الموالية للرئيس صالح, واحتلت عناصر تنظيم القاعدة مدينة زنجبار, عاصمة مقاطعة ابين, منذ مايو الماضي وانشأت ما يسمى ب "الامارة الاسلامية ". وحتى القراصنة اغتنموا فرصة الفوضى للاستيلاء على جزير سقطرة واقاموا فيها قاعدة للتزود بالوقود. وتجتاح سوريا, التى تتمتع بأهمية جيوسياسية كبيرة في المنطقة, ايضا تظاهرات واعمال عنف مستمرة منذ اشهر. ويتبنى الرئيس السوري بشار الاسد منذ البداية استراتيجيتين للتعامل مع الوضع, تتمثل الاولى فى التعهد بدفع بعض الاصلاحات السياسية والاقتصادية والثانية تقوم على التعامل مع المعارضة بقبضة حديدية باستخدام القوة. وحثت الولاياتالمتحدة على اثر دراستها للوضع في سوريا, حكومة الاسد على اجراء تغيرات جوهرية في البلاد.لكن الحقيقة الواضحة هي ان ليبيا كان يمكن ان تواجه مصيرا مختلفا تماما فى غياب التدخل العسكرى من قبل القوى الغربية وقصف الناتو. وفي الوقت ذاته, اثارت التعليقات التى ادلت بها الدول الغربية, لاسيما الولاياتالمتحدة, على الوضع في المنطقة هزات اقليمية.يقول محللون ان النظام القديم والاضطرابات الجديدة في منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا, تتوقف الى حد كبير على السياسات الامريكية تجاه المنطقة. مواطنون حائرون سامى فوزى هو شاب مصرى عادى مثل غيره من الملايين من شباب مصر. في يوم حارق شديد الحرارة فى بداية شهر يوليو, توجه فوزى البالغ من العمر 26 عاما من محافظته بشرق البلاد مع عدد من الاصدقاء الى القاهرة لنصب خيمة مرة اخرى فى ميدان التحرير وبدء جولة جديدة من الاحتجاجات. وانتشرت خيم مماثلة كثيرة فى انحاء الميدان. وقد نفذ صبر المتظاهرين, بعد أقل من خمسة أشهر من تنحي الرئيس المصري حسنى مبارك, وعادوا الى الميدان من جديد لتنظيم تظاهرات جديدة لعدم تحقيق مطالب اخرى للثورة.ويطالب المتظاهرون باجراء اصلاحات عميقة وسريعة من المجلس الاعلى للقوات المسلحة المصرية الذى قدم تنازلات ملموسة بما فيها تأجيل الانتخابات التشريعية وإعادة تشكيل مجلس الوزراء. وعلى غرار المصريين, احتشد التوانسة المحبطين من جديد في ميادين تونس, محذرين من "ثورة جديدة". ويشكوا المتظاهرون الذين أطاحوا بنظام بن علي, بنبرة حائرة من استمرار الفقر وعدم حصولهم على فرص عمل وكذا "الوجوه القديمة" فى الحكومة. يقول المتظاهرون "لا يبدو ان هناك شيئا تغير"!فى واقع الامر, قد تكون الآراء اكثر تشاؤما اذ ظهرت بعض الإشارات الايجابية. فقد خفت حدة السيطرة الاجتماعية الخانقة ومكافحة الفساد الوحشى كما لم يخرج التطرف الطائفي والارهاب عن السيطرة. ويتمثل صلب الموضوع في عدم تحسن مستوى المعيشة والاقتصاد. وتفتقد الحكومتان الانتقاليتان فى مصر وتونس للموارد الكافية والوسائل الفاعلة لإعادة إنعاش اقتصاديهما. في الوقت نفسه, ابعدت الاضطرابات المزمنة الاستثمارات الأجنبية والسياح من القدوم الى البلدين. وزاد من الامور سوءا اضطرار مليوني مصري وحوالي مليون تونسي فى ليبيا الى العودة الى بلادهم بسبب الحرب الأهلية الليبية, مما ادى الى تفاقم مشاكل البطالة في البلدين .وقد أدرك المتظاهرون تدريجيا ان الإطاحة بالأنظمة القديمة لا تعني بالضرورة الحصول فورا على الخبز والزبد والحياة الكريمة. ظروف متشابهة تجمع البلدان التي اجتاحتها الاضطرابات والفوضى الأخيرة مثل تونس ومصر وليبيا واليمنوسوريا والبحرين فى تشابهات كثيرة. فقد تبنت هذه الدول انظمة حكم سلطوية ينفذها قادة يحكمون منذ وقت طويل. أهملت حكوماتها البنية التحتية والخدمات العامة ومستوى معيشة الناس, مما أدى إلى اتساع الفجوة بين الاغنياء والفقراء وتفشي الفساد وارتفاع معدل البطالة. غير أن الناس وصلوا, بغض النظر عن التشابهات, الى ان هذه البلدان لها خصائصها المميزة ايضا.وقد حددت هذه الخصائص, فى ظل التغييرات الجذرية والاضطرابات الراهنة, مصائر مختلفة لهذه البلدان.فعلى سبيل المثال, لم تنته تونس الى حكم عسكرى على النقيض من مصر. واجبر الرئيسان التونسي والمصري على التنحي عن السلطة بينما لايزال يتمسك زعماء اليمنوسوريا بمناصبهم.علاوة على ذلك, يقوم الناتو بشن ضربات جوية مدمرة ضد ليبيا, غير أنه يبقى على مسافة من سورياواليمن. وخلال النصف الثاني من القرن العشرين والعقد الأول من هذا القرن,عانت العديد من دول الشرق الأوسط من حروب إقليمية ونزاعات محلية والإرهاب وخطر الانتشار النووي ومشاكل أخرى. ونتيجة لذلك, تخلفت الكثير منها عن قطار التنمية في العالم واصبحت اكثر تهميشا. غير أنه في بداية العقد الثاني من هذا القرن, ادهشت دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا العالم بموجات عارمة من الاحتجاجات وأعمال العنف والتغييرات الجذرية التي يقودها شباب الانترنت.ومع أن هذه التغييرت لم تحقق مكاسب ملموسة كثيرة للمحليين, الا انها زادت على الأقل من إمكانية تحقيق مستقبل أفضل. لكن لا يمكن لشعوب المنطقة القضاء على الفقر وبلوغ الثراء والتمتع بالسلام والرخاء الدائمين, إلا من خلال جهود دؤوبة وروح المثابرة والبناء, بدلا من التدمير العشوائي. وتأمل شعوب المنطقة بشغف فى ان يتمخض عن هذا الانتقال الشاق والعنيف انظمة سياسية جديدة اكثر فعالية وظروف معيشية افضل وانظمة اجتماعية اكثر عدالة. *وكالة الأنباء الصينية " شينخوا "