في أحد الأحياء الشعبية بمحافظة تعز الجنوبية، احتشد كثير من الأهالي مع ساعات الفجر الأولى في تجمع نادر لم يكن على صلة بالتظاهرات التي ينخرط فيها يومياً الآلاف من مناهضي النظام في الشوارع المحيطة بساحة الحرية والقريبة من المرافق الحكومية الاستراتيجية، لكنه كان متعلقاً بأنبوب مياه اضطر سكان الحي إلى استخراجه من باطن الأرض وكسره لإنهاء ما يعدونه عقاباً جماعياً يمارسه نظام الرئيس علي عبدالله صالح عن طريق منع إمدادات مياه الشرب عن سكان هذه المحافظة التي تتصدر قائمة المناطق اليمنية التي تعاني من شح المياه . في تعز، كما في محافظات أخرى، يتهم السكان نظام صالح بفرض عقاب جماعي على المواطنين نتيجة مواقفهم المناهضة لنظامه، ويشيرون في ذلك إلى تعمد السلطات قطع خدمات الكهرباء لساعات طويلة وأحيانا لأيام وقطع إمدادات المياه لفترات تتجاوز الشهرين، ناهيك عن منع تدفق مشتقات الوقود والغاز المنزلي إلى المدن، ما أدى إلى تصدعات اقتصادية خطرة كانت أبرز تجلياتها في ارتفاعات تضخمية في السلع والخدمات لم يسبق لها مثيل . وفق منظمة “هود” الحقوقية اليمنية، فإن سياسة العقاب الجماعي التي يفرضها النظام على المدنيين تشمل “حرمان المواطنين من الحصول على الخدمات الأساسية من ماء وكهرباء ووقود وخلق حالة من التوتر في شوارع العاصمة والمدن الأخرى ومنع الموطنين من حق التنقل وقطع الطرق المؤدية إلى العاصمة” . ويرى معارضون أن ظاهرة العقاب الجماعي التي يمارسها نظام الرئيس صالح صارت المحور الأكثر حضوراً في مشهد الأزمة، بعدما لجأ إلى كل وسائل العقاب والترهيب لتأديب مناهضيه الذين خرجوا منذ نحو ثمانية أشهر إلى الشوارع هاتفين بسقوطه، فيما يرى آخرون أن سياسة العقاب الجماعي صارت اليوم تمثل معادلاً موضوعياً للحرب التقليدية . في حي صينة، الواقع على مشارف جبل صبر، يعاني السكان هناك من انقطاع مياه الشرب للشهر الثالث على التوالي في ظاهرة غير بعيدة عن مظاهر الأزمة السياسية . وعلى مدى أيام نظم سكان هذا الحي والأحياء المجاورة، تظاهرات احتجاجية في الشوارع وأمام مؤسسة المياه وقطعوا الطرق بالإطارات المشتعلة، فيما وجد الناس هنا أنفسهم وأمام استمرار الأزمة ولهيب أسعار المياه المنقولة في صهاريج متوسطة مدفوعين إلى كسر أنابيب المياه المدفونة تحت الأرض لتزويد منازلهم بالمياه . يُقدم الناس في هذا الحي نموذجاً لمعاناة المدنيين من سياسة العقاب الجماعي فلا أحد من المسؤولين يمكنه أن يعطيك تفسيراً لقضية قطع إمدادات المياه عن المنازل، لذلك فإن معاناة الناس اليومية في المحافظات تتشابه نتيجة انقطاع خدمتي الكهرباء والمياه، وكذلك الوقود والغاز المنزلي . ومع احتمال المواطنين الأزمة الناتجة عن شح إمدادات الوقود ولجوء السلطات على بيعه بأسعار مضاعفة عبر محطات تزويد الوقود، إلا أن أزمة انعدام مياه الشرب كانت ثقيلة خصوصاً بعدما وصل سعر صهريج المياه العذبة إلى نحو 50 دولاراً . بالنسبة لكثيرين، كانت ظاهرة كسر أنابيب شبكة المياه وسيلة مثالية لحل الأزمة، لذلك استعان كثيرون بهذه الوسيلة لتزويد منازلهم بالمياه من طريق توصيلات بلاستيكية، خصوصاً أن ضخ المياه من الآبار السطحية التي تغذي الآبار الجوفية استمر على وتيرته دون توقف في الشبكة العمومية . يقول الشاب م . المقطري، وهو واحد من سكان الأحياء التي لجأت أخيراً إلى كسر أنابيب شبكة المياه لتزويد منزله بإمدادات المياه: “لسنا مخربين كما يدعي النظام وليس أمامنا من سبيل للتزود بالمياه سوى هذه الطريقة، بعدما قرر النظام قطع الإمدادات عن المنازل ولا أحد باستطاعته إقناعهم في إعادتها، فالنظام الذي نصب حاكماً عسكرياً في كل محافظة يستخدم اليوم كل الوسائل العقابية لإذلال الناس وصرفهم عن هدفهم في إسقاطه” . ويشير فواز إلى أن إمدادات المياه توقفت في بعض أحياء المدينة منذ شهر شعبان الماضي، ما أضاف أعباء كبيرة على السكان نتيجة ارتفاع أسعار صهاريج المياه . أزمة كهرباء يندر أن تستمر خدمة الكهرباء لعشر ساعات متواصلة، ويؤكد سياسيون معارضون أن نظام صالح لجأ في الشهور الأخيرة إلى قطع إمدادات الطاقة عن المدن رداً على مواقفهم المناهضة له، في أكثر وسائل أدوات العقاب الجماعي المفروض حاليا على المدنيين . يشير صلاح النهاري، وهو ناشط سياسي في تعز، إلى ما يسميه “معادلة الأزمة”، فكلما اشتدت الضغوط على النظام لجأ إلى تخريب محطات توليد الطاقة الكهربائية لتغرق المحافظات في الظلام لعدة أيام في وسيلة مثالية لإشغال الناس عن هدفهم المتمثل بالإطاحة بالنظام وبناء يمن جديد . وقياساً بظاهرة قطع إمدادات المياه يصعب على كثير من السكان إيجاد بدائل رخيصة الثمن عدا توفير جهاز توليد كهرباء يصعب على كثير من السكان الفقراء توفيره . لم يكن لهذه التجارة وجود في اليمن قبل الأزمة، لكنها وجدت طريقها على خطى الأزمة المتفاقمة التي يعيشها اليمن منذ فبراير/شباط الماضي وهي اليوم واحدة من أهم النشاطات التجارية نتيجة الطلب المتزايد عليها من قبل الجمهور . لا يخلو محل تجاري أو منزل من مولد كهربائي وتقدر بعض الأوساط الاقتصادية وجود بضعة ملايين من المولدات الكهربائية في المحافظات التي دخلت البلاد خلال شهور الأزمة الثمانية، غير أن توسع رقعة استخدامها أنتج تأثيرات سلبية على السكان نتيجة تلوث الهواء والضوضاء التي تطلقها في وقت واحد حتى أن ضوضاءها صار مميزاً لليالي المدن في اليمن . يلفت الشاب م . المقطري إلى أن المولدات التي كانت حتى وقت قريب بديلاً مثالياً لأزمة انقطاع خدمة الكهرباء، إلا أنها لم تعد كذلك حالياً نتيجة شح المعروض من الوقود بعدما اقتصرت صنعاء على تزويد الأسواق بوقود السوبر، وهو نوع من البنزين خال من الرصاص يباع بسعر مرتفع قياساً بالبنزين العادي . منذ اندلاع ثورة فبراير/شباط المناهضة لنظام الرئيس صالح، صار اليمنيون يقضون ساعات طويلة من نهارهم في البحث عن بدائل لمواجهة الضغوط المتزايدة التي طالت حياتهم المعيشية . ولم يقتصر بحث اليمنيين على بدائل للماء والكهرباء بل تعداه إلى الوقود، حيث أدى انعدام البنزين في محطات التعبئة إلى استثمار البعض لهذه الأزمة بالاستحواذ على كميات من الوقود وبيعها في السوق السوداء بأسعار عالية . ولا يبدو أن اليمني استسلم سريعاً لأزمة انعدام الوقود التي تعد سلعة حيوية في تحريك المركبات والدراجات النارية التي تنتشر بكثرة في اليمن، لذلك لجأ البعض إلى ابتكار وسائل جديدة في تشغيل الأجهزة ومولدات إنتاج الطاقة وخصوا استخدام الغاز المنزلي وبعض المشتقات التي تستخدم كوقود للطائرات في تشغيل معداتهم وآلاتهم . وبالمثل، فقد لجأ أصحاب السيارات والدراجات النارية إلى استخدام بدائل للبنزين، من ذلك خلط بعض المشتقات النفطية مع بعضها للحصول على وقود يعادل البنزين . وعلى الرغم من أن هذا النوع من البدائل استخدم بكثرة لتسيير الدراجات النارية، خصوصاً أن كثيراً من الشبان العاطلين عن العمل يعتمدون عليها في المعيشة إلا أنها ألحقت بالكثيرين خسائر فادحة .