تختن ذكورها في الثامنة عشرة ويهودها يعيشون بسلام 19 يوليو 2004م – " التغيير" – أبو بكر عبد الله : تذكرك المعارك الطاحنة في جبال صعدة اليمنية المترامية بتاريخ من الاحتراب والمقاومة. فمن هذه الجبال خاض اليمنيون حروبا شرسة ضد العثمانيين الذين حكموا اليمن بعد تصدع آخر الدويلات اليمنية وأرغموا من هنا على مغادرتها بعد قرن من احتلالها. تبدو صعدة رغم حالة الاحتقان التي تعيشها هذه الأيام بفعل التمرد الذي يقوده الزعيم الديني حسين بدر الدين الحوثي في الجبال وهو نجل احد المراجع الشيعية في اليمن كحالها دائما. دوي المدافع والقاذفات المستعرة في مناطق الجبال لايمكن بكل الأحوال أن يبعدك عن مدينة استثنائية جمعت على مدى تاريخها بين المتناقضات وأذابت الجميع في بوتقة واحدة. لم يكن حسين بدر الدين الحوثي أول من يدعي الإمامة لنفسه في جبل مران, فقد سبقه الإمام نشوان بن سعيد الحميري أحد أكبر المراجع الشيعية في اليمن قديما. مثل الحوثي كان الإمام نشوان الحميري ينكر على العلماء المقلدين التزامهم آراء أئمتهم ويدعوهم إلى نبذ التقليد, وكان له رأي في شروط الإمامة (الحاكم) يتفق فيه مع رأي الخوارج والمعتزلة. وقد دعا إلى نفسه بالإمامة ولكنه أخفق بعد معارك طويلة. جغرافيا صعدة تتفرد صعدة عن غيرها من مناطق اليمن بطقوسها ومميزاتها في الدين والسياسة والتضاريس, والأكثر من ذلك التميز بالعادات والتقاليد والأعراف المحكومة بشرع القبائل. وصعدة مدينة قديمة تقع في أقصى الشمال في محاذاة الحدود مع المملكة العربية السعودية وتمتد على الهضبة اليمنية على ارتفاع 1800 متر في الطرف الجنوبي لقاع صعدة الفسيح. وتمتد من صحراء الربع الخالي شرقاً حتى المرتفعات غرباً, وتبعد عن العاصمة صنعاء مسافة 242 كيلومترا ويقدر عدد سكانها اليوم ب600 ألف نسمة وتعد من المحافظات الغنية بالموارد الطبيعية. قديما كانت صعدة قبلة الصناعات المعدنية والزراعية والحربية ساعدها في ذلك وقوعها فوق أكبر مناجم الحديد في اليمن. وفي وقت متأخر ازدهرت فيها تجارة أحجار الزينة المستخدمة في بناء القصور والمنازل وفق المعمار اليمني. وتعيش اليوم أوج ازدهارها الزراعي إذ تنتشر فيها أجود مزارع العنب والرمان والبن, وتصدر منتجاتها الى معظم محافظات اليمن وإلى دول الجوار. ينشط ابناء القبائل هناك في زراعة الفواكه والقات واخيرا استقطبت مناجم أحجار الزينة اعداداً كبيرة من قوة العمل في المدينة. ومعظم السكان من المسلمين ما عدا القليل من يهود اليمن الذين يقيمون في صعدة منذ قرون عدة وتقدر الإحصاءات عددهم حاليا بالمئات. ازدهرت صعدة كمدينة علم ودين وثقافة وتجارة وصناعة وزراعة. ولقرون ظلت مركزاً للدولة الزيدية, وافاد الأئمة من تضاريسها الوعرة في مقاومة كل العواصف وحسم الصراعات الداخلية التي شهدتها. مدينة محصنة تناغمت عوامل الجغرافيا والدين والسياسة لتجعل من صعدة (كرسي الزيدية) حصنا عسكريا يتباهى به سكان المدينة على أقرانهم من المدن الأخرى. وتحاط صعدة القديمة منذ قرون بسور تاريخي يعد من أهم المعالم الفريدة في المنطقة بالنظر إلى ضخامة بنائه وتميز فنه المعماري علاوة على مميزاته الحربية. شيّد السور في القرن العاشر الهجري في عهد الإمام شرف الدين الذي تصدى بشجاعة للاحتلال العثماني في اليمن واستطاع أن يلحق بالعثمانيين هزائم متلاحقة. وتذكر بعض المدونات التاريخية سكان المنطقة بتفاخر عند الإشارة إلى انهم تمكنوا خلال 6 أشهر فقط من تشييد سور مدينة صعدة الذي يلف المدينة القديمة بطول خمسة كيلو مترات في شكل متعرج. كان الهدف من بناء السور حماية المدينة من الهجمات والغارات ويقدر ارتفاعه حاليا بين 7 و8 أمتار ويصل عرضه في السطح إلى 3 أمتار بينما يزيد عند القاعدة إلى 5 أمتار. وله أربعة أبواب و52 برج مراقبة (نوبة) وأقيم على امتداد السور ما يزيد عن 500 فتحة مراقبة. مظاهر مسلحة المظاهر المسلحة هي الملمح الأبرز في حياة السكان. ومن بين الكثير من أسواق بيع السلاح في اليمن يتصدر سوق الطلح قائمة الأسواق من حيث الحجم وتوافر احدث أنواع الأسلحة بأنواعها الثقيلة والمتوسطة والخفيفة! تعود شهرة هذا السوق إلى قرون ماضية حيث كان يحتضن اشهر صناعات السيوف قديما وفي التاريخ الحديث كان سوق الطلح هو الوحيد في اليمن والجزيرة العربية الذي عرف صناعة البنادق العربية القديمة. وقد قادت السلطات حملات كبيرة للقضاء على تجارة السلاح في هذا السوق الذي ظل مصدر قلق للحكومة اليمنية وحكومات بعض الدول المجاورة, لكن من دون جدوى, الأمر الذي دعا الحكومة وجهات أخرى الى شراء كميات كبيرة من الأسلحة المكدسة في هذا السوق في محاولة لانهاء نشاطه. أثر البعد التاريخي لسوق الطلح وعلاقته بالسلاح على حياة السكان ولعل أكثر ما يلمحه الزائر لصعدة هو ذلك الشغف الكبير لدى السكان باقتناء الأسلحة الشخصية التي لا تفارقهم حتى عند الدخول إلى عش الزوجية... تعايش مذهبي تجمع صعدة شواهد ومعالم تاريخية ارتبطت بتاريخ صعدة الإسلامي الذي بدأ تحديدا قبل ألف ومئة عام وهو تاريخ دولة الزيدية في اليمن. ينسب الى الامام الهادي إلى الحق أنه مؤسس دولة الزيدية في اليمن. وقد جاء الإمام الهادي يحيى بن الحسين عام 284 هجري (القرن التاسع الميلادي) إلى صعدة آتيا من الحجاز وبنى فيها مسجده الشهير الذي تحول في ما بعد إلى مركز ديني اضطلع بادوار مهمة في الحياة السياسية, التي شهدت استمراراً لحكم الائمة حتى عام 1962 يوم قيام الثورة في اليمن. ومنذ أن حط الأمام الهادي في صعدة تحولت إلى هجرة للعلم, وبقيت محط أنظار العلماء الزاهدين وقاعدة أئمة الزيدية في اليمن. والتعايش بين الأديان والمذاهب كان ولا يزال العنصر الأبرز الذي يميز صعدة عن غيرها. ففي هذه المنطقة ظهرت أهم المراجع الدينية للسنة وانتشرت فيها اعرق مدارسهم التي لا تزال حتى اليوم تضطلع بدور مهم في تعليم منهج أهل السنة ونشره. وفي التاريخ الحديث استقطبت مدارس السنة التي أمها الشيخ مقبل الوادعي الآلاف من الدارسين للعلوم الشرعية وفق المذهب السني بما في ذلك الطلاب العرب والأجانب الذين جاؤوا إلى اليمن لدراسة العربية والعلوم الشرعية الإسلامية في مدارس صعدة. وإلى جوار هذه المراكز كانت المنطقة قاعدة أئمة الزيدية والفرق الإسلامية ذات التوجه الشيعي. وعاش في صعدة العديد من أقطاب المذهب الزيدي والمراجع الشيعية الكبرى بفرقها المتعددة. ورغم الهوة بين المذهبين السائدين في صعدة إلا أن الجميع عاشوا على مدى القرون الماضية في وئام, بما في ذلك اليهود الذين تعايش معهم الجميع سنة وشيعة من دون توترات عقائدية أو مذهبية. يهود صعدة يعيش في صعدة منذ قرون ما تبقى من يهود اليمن, بعاداتهم وتقاليدهم التي لا تختلف عن نمط حياة اليمنيين سوى في العبادة. حياة اليهود في صعدة قفزت إلى الواجهة بعد احدث العنف التي شهدتها المحافظة اخيرا. وكان إعلان الجهات الحكومية عن تعاون بين متمردين ويهود صعدة سببا لامتعاض بعض السكان منهم لكن الأمر انتهى سريعا. ليس هناك ما يؤرق اليهود اليمنيين في صعدة سوى ما تتناوله الصحافة من مقالات تتحدث عن استخدامهم كورقة للتطبيع مع الكيان الصهيوني, ويعتقد بعضهم أن تناول وسائل الإعلام المختلفة الداخلية منها والخارجية لقضية التطبيع بين اليمن وإسرائيل تؤلب الشارع اليمني عليهم, و تقيد حركتهم في العيش والتنقل الآمن. يتواصل يهود صعدة مع أهاليهم في مناطق ريدة, أرحب, ذمار وإب, حيث يوجد المئات من يهود اليمن الذين رفضوا الرحيل إلى الأراضي المحتلة خلال عمليات الترحيل التي قامت بها منظمات صهيونية منذ نهاية الأربعينات وحتى منتصف التسعينات . وتعيش الأسرة اليهودية في صعدة كغيرها من الأسر المسلمة في حالة انغلاق فيما العادات اليمنية هي الطاغية اليوم على حياتهم رجالاً ونساء. يصعب التمييز بين اليهودي والمسلم لكن معرفة من هو يهودي تكون سهلة للغاية عند النظر إلى "الزنار " (خصلة الشعر المتدلية من جوار الأذن). أما تصرفاتهم وحياتهم فإنها يمنية خالصة. عادات وتقاليد من بين أكثر المظاهر الاجتماعية غرابة لدى سكان صعدة, عادة ختان الأولاد الذكور. إذ يعمد سكان بعض مناطق صعدة إلى ختان الذكور في سن متأخرة كثيرا. في تلك المناطق يتعين على الفرد الذكر أن يصل إلى الثامنة عشرة من عمره حتى تقوم أسرته بختانه على عكس العادات اليمنية التي تفرض ختان الطفل الذكر في اليوم السابع لولادته. لهذه العادة الاجتماعية جذور مرتبطة بالصراعات المسلحة بين القبائل وانتشار ظاهرة الثأر. بسبب هذه الظاهرة لجأ السكان إلى صوغ تشريع قبلي (شرع القبائل) يحمي من هم دون سن البلوغ من نيران الثأر. ويفرض العرف القبلي السائد في مناطق القبائل التعامل مع الشخص باعتباره ولدا الى حين ختانه الذي لا يُجري إلا بعد ان يصير الولد قادرا على حمل السلاح بعد الثامنة عشرة. ويقول السكان هناك إن ظاهرة الثأر تقوننت بفعل الزمن للحفاظ على الذرية. ويسري هذا العرف لدى القبائل المتناحرة مسرى القانون حماية للأطفال والنساء من عمليات الثأر. بوصول الشاب إلى سن الثامنة عشرة تقام وليمة لختانه يحضرها ابناء القبيلة ويتم فيها إلباس الشاب سلاحه الشخصي (كلاشنيكوف) بعد ان يكون قد استوعب تماما الاخطار التي قد يتعرض لها في هذا السن. ويقول احد المسؤولين في صعدة إن هذه الطريقة كان لها الفضل في الحد من ضحايا ظاهرة الثأر التي تعصف بمناطقهم منذ عقود.