رغم اعتراك عقود من الزمن على ثغامة رأسه ورغم تداخل الإيديولوجيات مؤخرا إلا أن الرجل لا يزال متمترسا خلف أفكار متوهجة كونتها أمشاج متداخلة من الثقافات والرؤى يغذيها يقين صوفي بأن وراء العتمة أنوار الغسق، إنه رجل من الأمس فيه واقعية اليوم وأحلام الغد المحلقة. عبدالباري طاهر الأهدل المولود في 8 مارس 1941م بالمراوعة في الحديدة حيث أربطة العلم المتعددة التي فتح عينيه صغيرا في كتابها فدرس القرآن الكريم وعلوم الحديث والتفسير والفقه واللغة العربية والحساب ونال الإجازات العلمية من مشائخها بعد أن قرأ الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني وحفظ المعلقات وتغذى بنسائم الصوفية العابقة بين تلك الديار العامرة بالعلم، غير مكتف بهذا بل لقد رحل إلى مكةالمكرمة وما بين عامي 55-57م أجاد علم الحديث والتفسير والفقه على المذاهب الأربعة إضافة إلى علوم اللغة في أربطة الحرم المكي بمدرسة الفلاح والمدرسة الصولتية ونال الإجازات العلمية أيضا من أشهر علماء الحرم مثل السيد علوي المالكي ومحمد المشاط وعبدالله سعيد اللحجي. ولئلا يستغرب قارئ ما عن الجمع بين صوفية تهامة ووهابية المملكة أقول: خلال تلك الفترة لم تكن الوهابية بالصورة التي هي عليها الآن فثمة نوع من الانفتاح والمساواة موجود بشكل طبيعي هناك، وكانت مكتبات الحرم المكي تضم بين جنباتها كتب اليمين واليسار، بما في ذلك كتب الإلحاد، ولم (يتوهبن) الحرم المكي إلا بعد انتشار الثورات العربية.. الخ. المهم.. عاد عبدالباري الشاب بنهم مستفيض مكبا على المطالعة والقراءة والتثقف فعمل مدرسا حتى قيام الثورة ليتم تعيينه موجها على مدارس المراوعة وباجل حتى عام 66م، وفي هذه الفترة اطلع على كتب رواد التنوير في العصر الحديث التي كانت تصل عن طريق عدن في الجنوب أو عن طريق الحجاج القادمين من المملكة، فقرأ لجمال الدين الأفغاني والكواكبي ومحمد عبده ورشيد رضا وطه حسين والعقاد ومصطفى صادق الرافعي وجورجي زيدان وسلامة موسى كما اطلع أيضا على ما سطره ماركس وانجلز وهيجل ونيتشه وكما أعجب بالعدالة الاجتماعية لسيد قطب، أعجب برأس المال لكارل ماركس نظرا للتلاقي الحميم بين كثير من أفكار الكتابين، لاسيما وأن الصوفية تحتل مساحة واسعة من تفكيره التي لا تبتعد كثيرا في مضامينها الفلسفية ورؤاها عن فكر ومضمون هذين الكتابين!! وما بين العدالة والمساواة «القطبية» وترشيد الإنفاق وواحدية الطبقية «الماركسية» والزهد والتقشف وإيثار الآخرين «الصوفية» تشكلت شخصية هذا العصامي المتطلع والطموح مع بداية تشكل الخلايا القومية ممثلة بحزب البعث العربي وحركة القوميين العرب، والجبهة القومية وحركة اليسار الماركسي بعيد الثورة مباشرة، وكل منها يحمل فكرة ومشروعا، ليس من بينها فكرة السطو على الأراضي أو الاستيلاء على حق الغير!! وتأثر الفقيه والأديب الصغير آنذاك بثلاثة أشخاص كانوا قد سبقوه في هذا المضمار هم عبدالغني علي أول وزير للمالية بعد الثورة ومساوى عبدالله صالح ومساوى محمد حكمي التربوي الشهير فانضم إلى حركة اليسار وقد أضافت صحيفة الطليعة التي أصدرها اليساري المعتق عبدالله باذيب في عدن جرعة نوعية إلى ثقافته، وبدأ النضال من هنا، وبدأت السيرة والمسيرة!! ففترة ما بعد الثورة خلقت أئمة بعد أن قتلت الإمام بحسب إشارة الراحل الشاعر عبدالله البردوني -رحمه الله-، ومن الطبيعي إذن أن تتسع مساحة الظلم وتزداد أعداد المتنفذين الإقطاعيين. ومع هذا الاتساع وتلك الزيادة لا بد أن تخلق معها النقيض كلازمة حتمية من السنن التاريخية إذ يولد الشيء ويولد ضده معه، بمعنى أن تبدأ أصوات الاحتجاج والرفض ضد هؤلاء وكان ابن طاهر المتشبع بثقافة المقاومة واحدا من هذه الأصوات، ليكون السجن في انتظاره بين فينة وأخرى!! آه.. من خلق ليطير، يصعب عليه أن يزحف والعكس أيضا صحيح. في عام 1973م انتقل من الحديدة إلى صنعاء منتدبا من وزارة التجارة إلى وزارة الإعلام، فعمل في صحيفة الثورة حتى وصل إلى رئيس تحرير فترة قصيرة تم استبعاده منها بسبب حرف واحد في عنوان رئيسي يقول «كنت ليلتها ضابطا مناوبا، ومن المعروف أن الضابط المناوب يتحمل كافة المسئولية في الصحيفة، فتركت الصحيفة بعد منتصف الليل، ولم يتبق إلا تجهيز المانشتات فقط والتي كانت تكتب بخط اليد، وفي أحد العناوين بدلا من أن يكتب أحد المختصين العنوان هكذا «قائد مسيرة التصحيح» كتبه «قائدة مسيرة التصحيح» المقدم إبراهيم الحمدي، فكان السجن عقابنا إضافة إلى الفصل، كما بقيت سنة كاملة بدون راتب. بعده التحق بالتعاونيات التي أنشئت آنذاك، وفي العمل الطوعي وجد ضالته لكنها لم تدم كثيرا، فانتقل إلى مركز الدراسات والبحوث اليمني وفي هذه الأثناء تم اعتقاله لمدة شهر بتهمة الحزبية واليسار، ثم خرج بتوجيه من المقدم أحمد حسين الغشمي، وعقب الانقلاب الناصري عام 79م كان من ضمن المطلوبين إلى الاعتقال، فأخبره الرفيق محمد اليازلي بذلك ما جعله يضطر للاختفاء سنة ونصف رهين الوحدة التي تعني الشيء الكثير لمثقف ما. قبل ذلك وتحديدا عام 76م تم انتخابه نقيبا للصحفيين إثر تأسيس النقابة واستمر فيها رئيسا لدورتين انتخابيتين، كما تم انتخابه أمينا مساعدا لاتحاد الصحفيين العرب ببغداد عام 79م وهو في سراديب الاختفاء، أعتقد أن هذا من كرم الوفاء من قبل الرفاق في تلك الفترة لمساندته في محنة الاختفاء. عن موقف لم ينسه وهو في العمل الصحفي كما يذكر حينما كان في أحد الاجتماعات الدورية للصحافيين العرب في الكويت أواخر عام 82م وأثر الانقسامات العربية واضح على أكثر من دولة، حيث طرح في اللقاء قضية مقتل الرفيق محمد علي هادي قاسم تحت التعذيب بسجن الأمن السياسي، وكان يعتقد أن اللقاء سريا وخاصا رغم استفزاز قاسم حمود رئيس اتحاد الصحفيين العرب له في اللقاء كون عبدالباري يحمل رؤية مغايرة لما عليه موقف العراق تجاه فلسطين، فقال له: أنتم أيها اليمنيون حينما تقتلون أحدا كيف تعملون؟ فرد على الفور: نحن نحب الستر ندفنه مباشرة أما أنتم فتقتلون القتيل وتمشون في جنازته!! وذهب حمود وسرب هذا الخبر إلى صحيفة الوطن الكويتية ثم نشرها صابر فلحوط رئيس وكالة سانا السورية للأخبار وهو من الشخصيات المهمة آنذاك، وفي اليوم الثاني يتفاجأ طاهر بالخبر منشورا في صحيفة الوطن، وحين عاد إلى سوريا حيث كان يقيم تفاجأ بالخبر هناك أيضا منشورا وبدورها أرسلت السفارة بالخبر إلى صنعاء وقد أضافت إليه أن طاهر ذهب ممثلا عن الجبهة الوطنية الديمقراطية ومقابلة الأمير الكويتي.. فعاد إلى اليمن والوضع -كما يقول- ملغوم واستجدت أشياء فيما بعدها ليكون السجن في انتظاره لمدة خمسة أيام. ويواصل مسيرته باحثا بمركز الدراسات والبحوث فمديرا له، حتى قيام الوحدة اليمنية وإعلان الأحزاب اليمنية ليتسنم طاهر منصب عضوا في اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي ثم رئيسا لصحيفة الثوري الناطقة باسمه خلال فترة 90-92م ثم عضوا في المكتب السياسي، مدافعا بقلمه الذي يشبه سيف الحجاج ولسان ابن حزم في كثير من المطبوعات عن الاشتراكية وعوالمها المثالية إبان فترة الصراع الحاد بين اليمين واليسار خلال أربع سنوات بعد الوحدة، ثم رئيسا للصحيفة مرة ثانية بعد الحرب. حاليا.. لا ينتمي إلى أي حزب غير أنه قريب إلى الاشتراكي كما يقول ولا تربطه أية علاقة تنظيمية به، يقرأ كثيرا ويكتب كثيرا، بهندام يعتبر امتدادا لهندام الستينات وكأن الرسميات عنده لا تعرف طريقا أو لا يعرفها، يمتلك قلبا نظيفا وعقلا واسعا وبساطة في التعامل كجبلة راسخة من المستحيل مفارقتها، فقد تبدلت الأحوال وتنازل الناس والتحق أتراب النضال بعجلة المترفين وعبدالباري كما هو.. لاسيار ولا سيارة ولا هنجمة، فقط جمجمة ملأى تتجول بملابس حراجية وكأنه بالضبط «مصطفى» البردوني صاحب القميص المنتف والجيب المنظف والكلام الأخير لصاحب القلم الرشيق الزميل عادل الأحمدي. حاليا يعكف على قراءة «الفيل والتنين» أحد إصدارات عالم المعرفة الكويتية، مستمتعا بشعر سعدي يوسف ومحمود درويش، متمثلا ما قاله أحد الحكماء: لا يهزم تشاؤم العقل إلا تفاؤل الإرادة، وهذا مختصر جواب لسؤال عن تشخيصه للوضع في اليمن.