إن الوحدة في مجتمع لا تمثل حالة بنيوية فيه مرجعها العمليات الإجرائية المعتمدة على ممارسة الديمقراطية بحيث تخضع للأغلبية، ولا هي منتج لقرار سياسي أو ديني، ولا تخضع في تكوينها للحيلة ولم تكن في يوم من الأيام أحد إفرازات المكر ودهاء السياسيين لتُصنع بأسمائهم أو تُفرض بقوتهم. إن الوحدة الحقيقية هي وضع اجتماعي يقوم على التبادل الوجداني والوشائج المترابطة بين الشاكي وتماسك البناء المجتمعي مهما تعددت أنساقه ومكوناته أو كثرت خطوط نسيجه الداخلي، وهو العامل الذاتي للوحدة القابلة للحياة بالارتباط مع العامل الموضوعي الذي يقوم على العدالة والمساواة والحرية وكل الحقوق الإنسانية لكل فرد في المجتمع. الوحدة حالة معنوية مقرها ومستودعها النفس البشرية ومصادرتها يعني هلاكها، فالوحدة اليمنية تحولت من النفوس التي هي جوهرها والحالة الروحية لها إلى الجغرافيا كمادة، والتي هي الشكل والمظهر ولعل ما يحافظ على توازنها هي تلك الأسس التي تعتمد عليها من العوامل الذاتية والموضوعية المذكورة، وبدون تناغم وتراتب المكونات والنسيج الاجتماعي لا يمكن التعايش في إطار جغرافي واحد، والخطأ الأكبر في قيام الوحدة اليمنية أنها تجاهلت الأسس التي تقوم عليها الوحدة وتغافلت عن دور ومكانة الإنسان وانكفأ العتاة والمتربصون من رجال السياسة إلى الاهتمام بالجغرافيا مع أن مقومات الشراكة في الوحدة تكاد تكون منعدمة كون الشعب الجنوبي يختلف عن الشمالي في بعض الخصائص، وإذا أنكرنا ذلك سنرجع إلى نفس الخطأ وإلى نفس الوحدة التي تدمر الإنسان وتسيل الدماء وتزهق الأرواح، وعدم قيام الوحدة بسد الفجوات والثغرات والتباينات بين الشعبين، وعدم إزالة الفوارق بالتدريج لبناء الوحدة على أسس علمية تضمن إقامة بناء اجتماعي متماسك، ولو عبر عقود، زمنية هو الذي أفشل الوحدة بعد عقدين من الزمن، ومع ذلك دمرت الأسس الأولية التي كان يمكن أن تقوم عليها بناء الوحدة، وما كان ممكنا أصبح مستحيلًا لأن الوحدة تمت بالاندماج من قبل سياسيين، عقولهم مركبة بخبرات الماضي المتخلف، ولم يدركوا أن النسيج الاجتماعي لأي مجتمع يتجاوز التنوع والتعدد العرقي الثقافي والذكريات المشتركة، ويجد تماسكه أكثر في التركيبة الاجتماعية والاقتصادية، أي في المصالح التي تربط الناس، ويزداد هذا التماسك وضرورته في ضوء النمط الذي يجري فيه تحصيل المعاش، أي طرائق إنتاج الثروة وتوزيعها، لذلك نجد أن أكثر المجتمعات تماسكًا تلك التي تتوفر على نمط حياة منتجة للقيم الروحية والمادية، والعكس من ذلك - أي الأقل تماسكًا - هي التي لا تتوفر فيها مثل تلك القيم.. والإخوة في المجتمع الشمالي متشبثون بالوحدة وكأنهم هم أصحاب القيم والمنتجين لها، مع أنهم أول من دمروا القيم المادية والروحية ولم يكتفوا بذلك بل جروا معهم شرذمة من الجنوبيين، وأصبحت الوحدة لديهم طابعاً نفسيًا لا تحمل القيم مع انتهاج سلوك وممارسة بعيدة عن أسس ومقومات التعايش الإنساني والحضاري؛ كون شركاء الوحدة - لا نستثني أحدًا - قد التهموا الجنوب وأبقوه أطلالاً خربة مهترئة لا مكان لأن يعيش الإنسان فيه بكرامة، وبعد هذا كله يستمر الإصرار على الوحدة وكأنهم هم منتجو القيم في الوحدة مع أنهم استغفلوا الجنوبيين من وراء قيمهم ولم يجد الجنوبيون أنفسهم إلا في قارعة الطريق وعلى هامش الحياة، واعتقدوا أن الثورة والتضليل باسمها وسيلتهم في استكمال تدمير ما لم يُدمر وأنها الروح المتحررة عند الجنوبيين لأن هذه الروح هي التي تخضع للواقع أو تتمرد عليه . واعتقد الإخوة أنهم وصلوا إلى نهاية حلقات مسلسل الإلغاء والإقصاء والاستحواذ على الأرض البشرية في الجنوب. لم يقتنع الجميع أن المجتمع الجنوبي يختلف عنهم ويتسم بنمط وسلوك وخصوصية وهوية تميزه كمجتمع يشعر بحاجته الضرورية للدولة بعكس الشعور الذي ينتاب الكثير من المجتمع الشمالي في رفضهم للدولة وكراهيتهم للثورة وإلا لما فرطوا فيها وتحولوا إلى الحوار، ودليل آخر أنهم لم يقبلوا إلى اليوم باستمرار وصول التيار الكهربائي إلى المواطن الغلبان، ولم يفكروا أن المواطن الجنوبي في المناطق الحارة يدفع ثمن تدميرهم للحياة والكهرباء والموارد، ولم يتقبلوا الدولة بأبسط صورها وأشكالها مع أنهم يقبلون الإرهاب في مناطقهم، وهم بيئة حاضنة له، لا نقول هذا الكلام جزافاً ولا ترفاً ولا سوء تقدير ولا بلغة الانتقام، ولكنه تعبير عن الواقع ومن وحي الممارسة. العجيب في الأمر أنهم يصرون على بقاء الوحدة والاستمرار فيها ويعرفون أنها انتهت مع أنهم يهللون لأسباب بقائها.. هذا التناقض يتم عن مزاج نفسي متأثر بالموروث التقليدي والفكري في المجتمع، وندلل على ذلك بتفسير الإخوة في الأحزاب والمكونات المجتمعية لجذور القضية الجنوبية، والوعي بها في الحقيقة يمثل صورة لإنكارها أو طريقة متعسفة لوسائل حلها، ونأخذ أنموذج تحليل وتفسير جذور القضية الجنوبية لأحد الإخوة، ويسمى أحمد عباد شريف، الذي أدخل علم المنطق في طريقة تفسيرها ومعالجتها، وهو أحد أعضاء الحوار عن الشباب المستقل، وممثل في لجنة القضية الجنوبية، ويريد بالرؤى المقدمة لأعضاء الحوار الجنوبيين إقناعهم بها وتمهيداً للحل، وهنا كان شريف قد حلّل وأوّل وزايد وكايد وأفاض واستفاض في تحليل جذور القضية بما يتناسب والوهم السوريالي والخيال الطوباوي المكرس في الأذهان. لقد أجهد الأخ المذكور نفسه في تفسيرات نظرية ومصطلحات زائفة ووصف فضفاض لتلميع صورة الوحدة كضرورة كونه صنفها بأنها ظاهرة تاريخية وليست سياسية، ولم يحدد لنا كيف كانت هذه الدولة اليمنية التاريخية مع أن الجنوب تاريخيًّا كان عبارة عن دويلات أو كيانات جغرافية، منها ما يلتحم وما يفترق عن دولة حضرموت الكبرى أكثر منها مع الدويلات الشمالية، لا نجني على التاريخ ونحمِّله أمانة هو عنها أعمى لتحقيق مآرب أصحاب المصالح الذين يتلذذون بسادية الفرض ووحدة القوة، والشريف يؤكد أن الوحدة ولدت بمولد الإنسان اليمني منذ بداية النشء والتكوين والجذور التاريخية من حيث الوصف فقد أجاد وسدد وانتهى إلى ما يصبو إليه من أن الجنوب فرع يعاد إلى الأصل بطريقة أو بأخرى، وأن التصرفات السياسية هي التي خلقت القضية الجنوبية باعتبارها قضية حقوقية، ولم تكن سياسية لأنها ترتبط بالتاريخ والجغرافيا والعلاقات البيئية . يُذكّرنا الأخ شريف بالفلاسفة المسلمين وأصحاب الكلام من المعتزلة في العصور الوسطى الذين اعتمدوا التأويل لفرض التقارب والتوفيق المفهومي المعرفي والفكري بين فلسفة اليونان وكلام الوحي، أي القرآن، وذلك لكثرة إعجابهم بالفلسفة الإغريقية التي اعتبروها الحكمة واعتبروا منطق ارسطو هو المدخل لها ولكل علم وتحولوا إلى شُرّاح لفلسفته، ومن السهل القول والتلفيق والتغريب المصطنع للأفكار المختلفة، ولكن من الصعب ربط تلك النظريات والمفاهيم بالواقع . هو الزيف الذي يوصل إلى حلول توفيقية يبقي الوحدة في حالة من التنظير البعيد عن الواقع لإيجاد المبرر للنفعيين والانتهازيين من أصحاب المصالح لاستخدام كل ممكن لفرض وحدة القوة مع أن الوحدة تقوم على أسس ومقومات مرجعها الحتمي رضا وقناعة الإنسان، وهذا ما يثبته الواقع والتجربة.. هذه هي أخطاؤنا التي ما زلنا ندفع ثمنها.. لماذا نكذب على أنفسنا بوهم الوحدة التي صودرت فيها حياة شعب ومحت وجوده. الوحدة كائن هلامي أشبه بالحي كونها تتحرك مع حركة الإنسان وتتفاعل مع مشاعره وعواطفه وقناعاته ولا نتحرك مع الجغرافيا لأنها مادة، فعندما تنتقل الوحدة إلى المادة يعني أنها خرجت من طور الحياة إلى الفناء، وهي أشبه بالسمكة التي حياتها مرتبطة بالبحر إذا خرجت إلى اليابسة ماتت، وهكذا الوحدة لا تفارق الإنسان ورضاه، كأنها جزء منه، وفي الأخير هي مصلحة للإنسان وإذا انعدمت المصلحة في الوحدة تصبح لا حاجة لها فتتقلص وتموت في داخل الإنسان فما بالنا إذا كانت ضرراً عليه، فكيف تُصرُّون على وحدة فيها مصلحة لكم وضرر على غيركم والتمادي بالضرر هو الذي استحال بإعادة الوحدة للحياة، وعندما تعجز المبررات المعرفية تلجأون إلى الدين لفرض الوحدة فالدين لم يفرض علينا الوحدة الجغرافية ولكنه رغَّب إلينا الوحدة العقيدية التي تقع في الصدور.. الوحدة إذا انتقلت إلى الجغرافيا ماتت لأننا خلقنا للتعدد والتنوع وجعلنا الخالق شعوباً وقبائل ولكن ليس كقبائل لا نجيد إلا التعصب. هذا لعلم إخواننا في الشمال أما المستمرئون في تضخيم أنفسهم والمزايدون باسم الوحدة، وهم النفعيون من الجنوبيين فنقول لهم: تريدون أن تكونوا اكبر من مصلحة شعبكم المسحوق لمدة 23 عاماً لتعيشوا في الترف على حساب بلائه وشقائه فلا نامت أعين الجبناء. وأما ما يسمى بالقيادات التاريخية: ألا يكفيكم تاريخكم الأسود وكل حكام الجنوب سابقاً، ألا تصحو ضمائركم، يغيضكم أن الشعب الجنوبي توحد أمام تفرقكم واختار بمحض إرادته شخصيته الوطنية كضرورة للتمثيل الشرعي بعد أن قطع على نفسه عهداً بالوصول إلى بر الأمان بشعبه ثم يسلم الراية إلى أهلها . والجنوبيون لا يعبدون الأوثان أيها القادة التاريخيون.. كفوا تماماً عن تصريحاتكم في مقاولة خاسرة تتزين بها الصحف الصفراء المرجفة في البلاد، وكما كابرتم لن تنجوا من غضب الشعب ولن تستطيعوا أن تحرقوا مساره، وإذا نافقتم الأعداء بتصريحاتكم المتكررة فلن يقبل منكم الشعب بعد ذلك صرفاً ولا عدلاً لأنكم بعملكم هذا من القالين له، وتثبتون بأن ليس لكم تجاه شعبكم إلاً ولا ذمة ولا تحملون همه وليس لكم إلا التنافس على وهم الزعامة. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه وأرنا الباطل باطلاً وأعنا على اجتنابه.