بدأت كتابة هذا المقال في 28 ديسمبر، اليوم الذي سيحيي فيه الآلاف من رفاق جار الله ومناصري قضيته الوطنية ذكرى استشهاده تجديدا للعهد للسير على طريقه والنضال لتحقيق مبادئه ومبادئ حزبه ورفض جريمة صالح والزنداني وكل قوى التخلف صاحبة المصلحة في اغتياله. وفي مثل هذا اليوم 1 يناير 2003 الذي تصدر فيه "الوسط" زفت جماهير من مختلف المحافظات في موكب جنائزي مهيب وغير مسبوق المناضل الشهيد إلى مثواه الأخير قدّرتها وسائل الإعلام بمئات الآلاف وتجاهلها صالح وإعلامه الذي لم يكتف بذلك بل قام بحملة اعتقالات للعشرات. للتذكير صالح لم يقبل بدفن جار الله في مقبرة الشهداء إلا بناء على نصيحة محرجة من المرحوم الشهيد يحي المتوكل الذي لم يطق صالح بقاءه على قيد الحياة واغتاله بعد جار الله بأسبوعين، ثم بعد سنة وشهر اغتال مجاهد أبوشوارب عقابا له على إدانته العلنية مع الشيخ سنان أبو لحوم لحرب 1994 والانفصال. صالح لم يغفر للمتوكل الضغط عليه للتوقيع على وثيقة العهد والاتفاق ولم يصفح لأبو شوارب وسنان استقلال موقفهما في حرب 1994 عن موقفه لأنه كان يريد فقط إدانة الانفصال ومباركة حربه متجاهلا أن إعلان الانفصال كان نتيجة حتمية لحربه. جار الله رأى في موقفيهما الشجاع تحميل صالح مسئولية الحرب التي دفعت البعض في الاشتراكي إلى إعلان الانفصال. ويبدو أن الشمس لن تسطع في اليمن ففي 26/12/2012 تكرر سلوك الأمن القمعي ضد شباب حملة إحياء ذكرى اغتيال جار الله وكأن لا شيء تغير في السلوك السلطوي القمعي ووجود وزير للداخلية يمثل شباب الثورة الذين رفعوا صور رمزهم جار الله في ساحات وميادين التغيير. وفي 28 ديسمبر وبينما هو عائد من مسيرة جار الله تعرض محمد الصايدي لاعتداء بالطعن عند مسجد الشهداء لأنه كان يحمل صورة جارالله من قبل صاحب مطعم يدعى ث. ع. ر. سبقها لعن الشهيد ووصفه بالحمار وشتم الصايدي . إن القاتل السعواني له أنصار وثقافة الكراهية وتحليل العنف والقتل لاتزال نشطة وإن الطليعة عليها أن تقدم المزيد من الضحايا وتتحمل الكثير من الصبر مالم تقم السلطة بدورها وأن لاتتراخى الآن كما فعل صالح عقب اغتيال جار الله والمتوكل وأبو شوارب وغيرهم . الكراهية والحرب والعنف تزرع في العقول ومعروف أين يتم غرس هذه الكراهية وأين هي حضاناتها ومن يرعاها.وهنا أذكر الأخ وزير الداخلية بأنه لايعفى من المسئولية بحجة أن لاسلطة له على قوات الأمن الخاصة لأننا لسنا في عهد صالح التي كانت هذه القوات (الأمن المركزي سابقا ) لاسلطة لأسلأفه كلهم عليها وأذكره ببيان لحزبه عقب اغتيال جار الله جاء فيه "إعطاء أعضائه الأولوية في نشاطهم العام لقضايا حقوق الإنسان والانفتاح ومحاربة ثقافة العنف والتطرف والغلو وكل ما من شأنه مصادرة حرية الآخرين أو التعدي على حقوقهم". إن تكريم جارالله رفض لتغييبه الجسدي من قبل صالح واعتراف وطني بدوره ونضاله وهو رسالة لعلي صالح بأن جار الله لم يمت . صالح أحد أكبر المستفيدين من جريمة اغتياله ومن غيابه السياسي وأحد المربين للقاتل بأكثر من وسيلة كان من بينها صحيفته ،صحيفة، عبده الجندي " صوت المعارضة" التي وردت مع اسمه أكثر من مرة في التحقيقات مع القاتل. الجندي يتحمل بالاشتراك مع الأمن السياسي والزنداني وصالح مسئولية الاغتيال وينبغي أن يكون للعدالة وقفة وطنية مسئولة وجادة معهم تطبيقا لمبدأ عدم الإفلات من العدالة ومن العقاب مهما طال الزمن. الدولة المدنية في فكرجار الله: سأكتفي بالتطرق إلى بعض المحاور في هذا المقال. وبداية لايمكن فصل فكر جار الله عن فكر حزبه وإلا وقعنا جميعا في فخ الشخصنة وإعلاء دور الفرد ولهذا الأمر أضراره. حزب جار الله هو مدرسته وفيه طور فكره ووجد فيه رافعة التغيير وفي إطاره طالب بالديمقراطية وتلازمها مع الوحدة ومن خلاله قام بدوره الوطني بتواضع ونكران ذات وكانت قامة جار الله الوطنية هي التي دفعت صالح للانفراد به مع يحي الشامي في عدن في 29 نوفمبر 1989 لطمأنتهما بأن الديمقراطية ستكون هي والوحدة توأمان!!!. 1- الديمقراطية: لم يفصل جار الله بين الممارسة الديمقراطية داخل الحزب الاشتراكي وخارجه. وفي ورقته عن التعددية السياسية عام 1988نادى بتطوير التجربة البرلمانية ليتولى البرلمان الرقابة والمحاسبة وتشارك السلطة التشريعية في صنع القرار السياسي ويتفرغ أعضاء البرلمان لمهامهم التشريعية. وطالب بالسماح بمعارضة علنية فيه . و طالب بإعادة النظر في الفهم الخاطئ لبعض المقدسات الحزبية كمبدأ المركزية الديمقراطية الذي اختزل في المركزية وحدها و بأن يكون الاختلاف الفكري داخل الحزب علنيا وأن يصبح التنافس في الترشيحات الحزبية بين أكثر من مرشح وانتهاء القوائم المغلقة . 2- حرب 1994: توقع جار الله قيام صالح بالحرب لإضعاف موقف الحزب الاشتراكي التفاوضي وشن حرب نفسية قبلها تستهدف النيل من معنويات أعضاء الحزب وأنصاره وجر الحزب إلى مجابهة نهائية بالوسائل والشروط وعلى الساحة التي يختارها هو . قارن جار الله بين حرب 1994 وبين الحرب الأهلية الامريكية، فبينما الأخيرة عززت وحدة الأمة وأقامت مجتمعا جديدا متماسكا لا تمييز فيه بين شمال وجنوب ،وبكلمة أدق بين البيض وحدهم، ورفعت مستوى حياة الناس وأقامت دولة يحترم فيها القانون والدستور والمواطنة،أما عندنا ففككت حرب صالح التي لم يكن لها هدف وطني اللحمة الوطنية وقسمت الوطن إلى شمال وجنوب من جديد بعد توحده وأفضت إلى تغيير النظام الاجتماعي وضرب مشروع التحديث وهمشت القوى المؤيدة له وكانت انقلابا إلى الوراء بكل المقاييس،لأن صالح لم يكن يستدعي سوى غريزة القوة .وينفي جار الله أي مشروعية لحرب صالح لأنها كانت بدون مشروع سياسي يلامس حاجات الناس ومتطلبات العصر. 3- فك الارتباط بين السلطة والعصبية والعشائرية أو المذهبية أو الجغرافية: أدرك جار الله حجم العراقيل والصعوبات التي وضعتها القوى التقليدية والبيروقراطية وثقافة المصالح غير المشروعة المدنية والقبلية والعسكرية والدينية في طريق تنفيذ اتفاقية الوحدة والعمل بدستورها وطالب في ورقته " أبعاد الأزمة الراهنة ومصير الوطن" التي وجهها إلى قيادة الحزب الاشتراكي في 30 مارس 1994 بفك هذ الارتباط المعيق ولكنه عملا بمبادئ حقوق المواطنة أوضح أن هذا لا يعني تحريم شغل المناصب في السلطة على أبناء هذه القبيلة أو المذهب أو المنطقة، بل تغيير الشروط غير المكتوبة لشغل المناصب العليا في الدولة بإضفاء الطابع المدني عليها وجعل الكفاءة شرطا يؤهل للوصول إلى هذه المناصب بدلا من القوة وإعلاء الانتماء السياسي والحزبي على الانتماء العشائري أو المذهبي أو الانتساب إلى المؤسسة العسكرية.. فالسلطة طبقا له قوة بحد ذاتها وهي تحتاج إلى الحكمة والثقافة والعقلانية لترشيد استخدامها وليس إلى قوة إضافية. 4- الثوابت: دحض جار الله مقولة الثوابت التي تشقّر بها صالح لفترة طويلة وطالب بإحلال الاجماع الوطني محلها والتعهد المشترك باحترامه أي أن يكون آلية للعمل الوطني وقائدا له وليس الحكم الفردي وشعارات وكلمات فضفاضة خالية من المضمون ك"الثوابت". ويبدو أن بعضهم زرّق الكلمة لصالح لأهداف أخرى وكان يقصد الثوابت الدينية ولكن صالح التقطها لترويجها لصالح مشروعه القمعي وأصدر دورية باسمها واكتفى بالقول دون الفعل وضرب بثوابت الثورتين والوحدة عرض الحائط ونزع نحو الاستبداد والتوريث تحت راية الثوابت. وحذر جار الله من زج مايسمى بالثوابت في الصراع الحزبي والسياسي لأنها "أسمى من كل الصراعات والمصالح ومنها إلى جانب الوحدة اليمنية ديننا الإسلامي وهويتنا القومية والوطنية لأن مواصلة توظيفها في الصراع يسيئ إليها ويلحق الضرر بكل من يستخدمها ومن تستخدم ضده لأنها من قبيل توظيف المقدس لأغراض غير مقدسة". باختصار ليس هناك ثوابت سياسية جامدة في أي نظام سياسي سواء كان جمهوريا أو غير جمهوري لأن طبيعة النظام السياسي الحركة والتطور وليس الحفاظ على الأمر الواقع والاكتفاء بالشعارات دون الفعل والإنجاز. 5- الفيدرالية والحكم المحلي : رأى جار الله في وقت مبكر في الفيدرالية عملية تنظيمية وإدارية داخلية لدولة متحدة تقترن وتصاحب دائما الوحدة وليس الانفصال وأنها ليست كفرا بواحا أو خيانة وطنية . كان هذا هو فهم جارالله النظري الناضج للفيدرالية قبل عشرين عاما ولم يكن ضدها ولكنه رأى أن توقيت اقتراحها غير مناسب لأنه كان يراها هادمة لوثيقة العهد والاتفاق ولأن جماهير الشعب في الشمال المشوشة الوعي ستنظر إليها كشكل من أشكال الانفصال وهو ماحدث فعلا عام 2013طوال الفترة التي أثيرت فيها قضية الفيدراية لحل المشكلة الجنوبية وإرخاء قبضة الحزام القبلي والمؤسستين الدينية والعسكرية على السلطة وتخفيف هيمنتها عليها والاستئثار بمقدراتها. وبدون مبالغة لو تمت الموافقة على هذا الخيار في حينه لكان حالنا أحسن مما هو عليه الآن. من جهة ثانية رأى جار الله في مارس 1994، أن طرح فكرة الفيدرالية من قبل طرف موقع على وثيقة العهد والاتفاق يؤدي إلى تحقيق حلم الطرف الآخر بفض لجنة الحوار نهائيا. حلم صالح اليوم هو نفس حلمه السابق ،انفضاض مؤتمر الحوار الوطني بدون تحقيق أهدافه.وللعلم كانت الوثيقة نتيجة عمل دؤوب ومخلص من قبل لجنة الحوار الوطني الشبيهة اليوم بمؤتمر الحوار الوطني ولو لم يرم صالح بالوثيقة في سلة المهملات لوفرنا زمنا وأموالا للتنمية ولم نضع فرصا ونعانِ كل مشاكل اليوم وصراعاته وحروبه وانقساماته ويطعم العالم جزءا ليس بالقليل من شعبنا بينما ثروة صالح المنهوبة من قوت الفقراء تقدر بعشرات البلايين من الدولارات . 6- القطيعة - الانفصال: كان جار الله وقتها وقبل التدهور المريع في الوضع العام سياسيا واقتصاديا وأمنيا يرى أن المواطنين يدركون أن الصبر على المكاره وتحمل المشاق والمعاناة في ظل الوحدة أيسر بكثير مما قد يحدث في ظل التشرذم والانقسام فيوم واحد من القطيعة بين شمال وجنوب الوطن يكفي لإلحاق الضرر بمصالح عشرات الآلاف من الناس. وتحدث جار الله عن المصالح الواسعة والمتشعبة التي خلقتها الوحدة وعن الأضرار التي ستلحق بها جراء ما أسماه بالقطيعة ومايسمى اليوم بالانفصال. وفي هذا المقام يجب استيعاب درس شبه القارة الهندية ومأساة الملايين الذي وجد المسلمين منهم أن لديهم جنسية وهوية جديدة وأن الديانة تحدد الهوية الوطنية وأن على المسلم أن لايبقى حيث ولد وكذلك الهندوسي والسيخي ومناخ الكراهية الدينية الذي تسبب في قتل أكثر من مليون من هؤلاء بعد تقسيم الهند وهم آمنون في بيوتهم أو في طريقهم إلى وطن جديد لايعرفونه وإلى مصير مجهول وجيران لا يربطهم بهم سوى الدين الذي قال عنه جوناثان سويفت لو كان لدينا منه مايكفي لحبينا بعضنا بعضا وهو يقصد صحيح الدين أي دين وليس دين بعينه أو مايسوق اليوم على لسان التجار الجدد. كان جار الله يقرأ أفكار البيض قبيل حرب صالح الذي كان يريد دفع الاشتراكي لإعلان الانفصال وحذر من ارتكاب خطأ تاريخي(الانفصال) لايمكن تداركه ويكون له مابعده وطلب من كل القوى تدارك الوضع قبل أن نسقط في هاوية حرب أهلية ويتشظى الوطن بصورة مختلفة عما كان عليه عام 1990. 7- النقد: النقد كمبدأ من صلب العمل الحزبي وأساس بقاء الحزب قويا ومتماسكا وقادرا على التطور ومواجهة التحديات والعواصف. ولكن شتان بين وضع يكون فيه الحزب تحت الأرض وينشط فيه النقد وبين أن يكون في السلطة وتلعب المصالح دورها في قمعه وإساءة تفسيره.لم يوجه جار الله نقده للنظام في الشمال وحده بل انتقد النظام في الجنوب أيضا وفي هذا الصدد قال" برز اتجاهان في شطري اليمن تطرف يميني في الشمال وتطرف يساري في الجنوب والأخير ظهرت تجلياته بعدد من الإجراءات الإرادوية التي تتخطى الواقع الاقتصادي والاجتماعي في السبعينات رغبة في تجاوز التخلف وتحقيق العدالة الاجتماعية". جاء ذلك في ورقته التي كتبها عام 1988. وعن الشمال قال "إن قوى 5 نوفمبر لاتزال هي السائدة وصارت إمامة بحزب منظم ولكن بدون الإمام البدر". قال هذا قبل أن يسفر التوريث القبيح عن وجهه. وعن الجنوب قال بصراحة "تركت السياسات والإجراءات اليسارية المتطرفة آثارا وتشوهات سلبية أضرت بالتجربة وانعكست على الشمال وأسهمت في تفكيك التحالفات الوطنية فيه لولعها بالجملة الثورية ورفع شعارات متطرفة تتجاوز الواقع". وأضاف " لقد أضرت الإجراءات الإدارية والأوامرية في توجيه مسار التجربة في جنوب الوطن التي مارسها ماأسمي باليسار الانتهازي واليمين الانتهازي بالقوى الوطنية في الشمال ، وأثرت إجراءات التأميمات المتطرفة على التحالفات في الشمال لأن مثيل الفئات التي تضررت في الجنوب اتخذت موقفا معاديا لليسار ثم جاء تكريس الحزب الواحد في المرحلة اللاحقة ليعمق هذه الأضرار التي تعدت تأثيراتها التجربة في الشطر الجنوبي إلى القضية الوطنية بأسرها.واعترف جار الله دون غيره بأن هذه الإجراءات أفادت الإسلام السياسي ودفعت شرائح من الطبقة الوسطى إلى السعي إليه كملاذ لها من مشروع الحزب الاشتراكي الذي رأت فيه نفيا لمصالحها. وإلى مقالات أخرى في العام القادم إنشاء الله لأن معين جار الله لا ينضب.