لم تنقذ الديمقراطية لبنان من الحروب الأهلية. لم تنجح الديمقراطية في فلسطين في أن تحافظ على الوحدة الوطنية. كل الدول العربية التي فتحت هوامش للممارسة الديمقراطية عن طريق الانتخابات واجهت أزمات ارتفع في خلالها منسوب العنف السياسي، في الجزائر واليمن، في العراق وإلى حد ما في مصر، حيثما يتوافر السلاح، الأوضاع تأخذ شكلاً مأساوياً، هناك قضية كبرى اسمها العرب والديمقراطية. ثمة عامل أساسي قد يساعد على التفسير يكمن في وجود قضية وطنية أو نقص في تبلور الهوية القومية أو انشداد إلى الصراعات الخارجية. قد يكون ذلك مفهوماً وواضحاً في دول تواجه احتلالاً أو تحديات مباشرة في فلسطين والعراق ولبنان، لكن لا معنى لذلك في تجربة الجزائر سابقاً وفي اليمن حالياً. لقد صار العمل السياسي السلمي متاحاً اليوم بوسائل واسعة التأثير أكثر بكثير من الماضي في جميع الدول رغم القيود. الإعلام اخترق كل الحواجز والجدران. لم يعد العنف الوسيلة الأكثر فاعلية لجذب الانتباه، على الأقل صار الوسيلة الأكثر سلبية بنظر الرأي العام العالم. لقد انتهى الزمن الذي يتمتع العنف فيه بنظرة رومانسية وبوظيفة ثورية تغييرية. العنف مدان في الأغلبية الساحقة من الرأي العام. إنه ذو قيمة أخلاقية سلبية ومرذولة، حتى وهو يرتبط بقضايا إنسانية ووطنية عادلة. في عصرنا صار العنف بجميع أشكاله يقترب أكثر من مفهوم "الإرهاب". نحن سنظل نميّز بين عنف الشعوب المقهورة المستعمرة أو المحتلة وبعض أشكال مقاومتها العنيفة وبين "الإرهاب" الذي لا أهداف وطنية وإنسانية من ورائه. ولكن، رغم ذلك، يجب أن نعترف باختلاط المفاهيم والممارسات في أحيان كثيرة. أما العنف الذي تمارسه الجماعات السياسية بين شركاء في القضية الواحدة، كما يحصل الآن في فلسطين، فهو بالتأكيد خارج أية قيمة أخلاقية، وطنية أو سياسية. إنه دليل صارخ على الانحطاط في التعامل مع القضية الوطنية وفي ممارسة السياسة. هو لا يؤدي أية وظيفة براغماتية نفعية حتى للفريق السياسي الذي يمارسه. لا يقويه هو ولا يضعف خصمه. إنه عنف مجّاني عبثي عدمي مناقض لكل معنى إنساني أو قيمة إيجابية. هو خسارة صافية للنضال الوطني، وهو تشويه فاضح لمعايير العمل السياسي الهادف إلى تغيير الأوضاع باتجاه أفضل. هو دليل عجز مطلق عن إدارة شؤون الناس والمجتمعات واستخدام السلطة في اتجاه تحسين الظروف والأوضاع لتحقيق أهداف يرسمها أصحاب العلاقة. ويتصرف البشر على هذا النحو من السلوك الوحشي عندما يفقدون الضوابط القيمية الأخلاقية والعقلانية. آية ذلك في الشعر القائل: "لولا العقول لكان أدنى ضيغم، أدنى إلى شرف من الإنسان". إذاً، المسألة يجب النظر إليها من زاوية العقل السياسي الذي يحكم لعبة السلطة والسلاح والقدرة على ممارسة العنف. في الفكر السياسي السائد في عالمنا العربي، السلطة لا تزال مرتبطة بالقوة المادية. مفهوم القوة يتغلّب على مفهوم القيادة أو المرجعية أو الشرعية. الحاجة البشرية إلى السيطرة، إلى الحكم، إلى السلطة تأخذ طريق البحث عن القوة والغلبة على حساب مفاهيم مثل الأفضل والأحسن والأصلح والأكثر كفاءة والأوسع معرفة والأكثر رقيّاً أو تقدماً أو خبرة أو وعياً أو نزاهة أو عدلاً أو صاحب حق أو مشروعية تأتي من وعي جمعي أو ثقافة قومية. نحن مجتمعات تمجّد وتقدس وترضخ للقوة. لذا لا تحتاج القوة إلى رمز مثلما تحتاج كل القيم والأفكار، والرمز عندنا هو الزعيم أو القائد الذي نمنحه ثقتنا والأصح طاعتنا وولاءنا المطلق غير المشروط، لأنه المصدر الذي من خلاله توزع القوة على الجماعة. هذه العلاقة بين الجماعة والفرد عندنا طاغية وساحقة لمصلحة الفرد الرمزي الذي يختزل ويختصر. لذا، نحن دائماً على استعداد لكي نفتديه لأنه نحن كجماعة من لون واحد ومن فصيلة واحدة. الديمقراطية لا تحل لنا مشكلاتنا. الديمقراطية جمع أكثري من الأفراد على اختلاف إمكاناتهم يتحولون إلى جماعة ضاغطة. العصبية نفسها تؤدي وظيفة الديمقراطية على هذا الصعيد. العقدة تكمن في المعايير التي تلتقي عليها الجماعة، ما هي ثقافة الجماعة؟ وما هي قيمها؟ وما أهدافها؟ الديمقراطية في بيئات اجتماعية متخلّفة على صعيد ثقافتها وقيمها تنتج قوة، تنتج أيضاً سلطة قاهرة مجدداً. وأحياناً تتحول الديمقراطية إلى نقيضها المباشر، لقد جاءت الديمقراطية في أوروبا بالنازية والفاشية إلى السلطة، وهي جاءت في مجتمعات أخرى بقوى سياسية تستخدم الديمقراطية كأداة للوصول إلى السلطة وإقفال الطريق بعد ذلك على حركة التداول السلمي وحتى على حركة الأفكار والحريات. الديمقراطية الفعلية نقيض للأيديولوجيات الحصرية والشمولية، الحق في ممارسة التعددية شرط أساسي لها. احتمالات تبادل المواقع شرط أساسي آخر في السلطة وخارجها. ونحن بحاجة إلى ثقافة الديمقراطية وليس إلى الحق الانتخابي فقط. *(الخليج الاماراتية)