من أبرز صور وطنية المؤسسة العسكرية "الاحتراف" الكامل، ومن أبرز ما يُنقص من كمال الاحتراف العسكري للمؤسسة الوطنية الكبرى" التمذهب" و "التحزب" والطائفية بكل تجلياتها. وقد كانت الحزبية محرمة على كل أبناء اليمن عموما قبل الثاني والعشرين من مايو 1990م ، أما المذهبية فلم يكن لها مكان من الإعراب في الجدل السياسي الذي شهده المجتمع اليمني منذ قيام الثورة اليمنية وحتى خواتم السبعينيات من القرن الماضي حين تم إنشاء أول تنظيم سياسي ديني سلفي مقاتل تحت مسمى" الجبهة الإسلامية" برعاية حكومية مباشرة، وبميزانية مالية من البنك المركزي، وذلك في مقابل الجبهة الوطنية الديمقراطية التي كانت تقاتل في أكثر من منطقة من شمال اليمن بدعم من حكومة الشطر الجنوبي من اليمن. قبل ذلك لم نكن نسمع- وأنا هنا أتتحدث عن شمال اليمن- عن أية تجمعات أو جماعات أو تنظيمات زيدية أو شافعية أو سلفية أو جعفرية، أو أي لون من ألوان التكتل والنشاط المذهبي في مقابل الآخر. كان هناك أنشطة حزبية وطنية تتم تحت الأرض، تفننت السلطة الحاكمة في مختلف المراحل في قمع الناشطين فيها بكل الوسائل. وعلى الرغم من كل التبعات المفجعة التي كانت تترتب على أي نشاط سياسي حزبي، فإنه كان موضع فخر، باعتباره عملا وطنيا خالصا، ولم يكن ينظر إليه بازدراء، لأنه كان تعبيرا عن مواقف أو معتقدات سياسية أيديولوجية لا تنتقص من الآخر، أو تنكره أو تسفهه أو تنفي عنه صفة الوطنية، فالميدان فيه واسع يتسع للجميع، والتنافس فيه يقوم على البرامج السياسية البشرية التي تتعقل الواقع، وتتصل مباشرة بحياة الناس ومستقبلهم ليس أكثر، ولم يكن ليتطرق للعلاقة بين الإنسان وربه، فهذه مسألة تتصل بالضمير الشخصي، والقناعة الفردية أو الجماعية على مستوى القناعات المتمايزة التي يحترم، أيضا، بعضها البعض الآخر ولا يزدريه، أو ينتقص منه. وبالنسبة للقوات المسلحة فإنه لم يفسد كمالها الاحترافي، الذي هو أهم مقومات وطنيتها، سوى تعرضها للاختراق من قبل الأحزاب السياسية التي كانت تنشط في الساحة الوطنية في ظل تحريم وتجريم النشاط الحزبي، ولم ينل المؤسسة العسكرية من جراء ذلك سوى الانقسام والتكتل حول الدعاوى الحزبية التي يفترض أن تكون حكرا على القطاع المدني من المجتمع، فكانت النتيجة المباشرة لذلك التكتل والتمحور الخاطئ التقاتل الداخلي بين وحداتها، الذي حصد عشرات الأنفس في أحداث 23024 أغسطس 1968م ، وترك في هذه المؤسسة الوطنية الرائدة جرحا غائرا ما تزال تداعياته ماثلة في سلوك البعض حتى هذه اللحظة، وتستحق أن تؤخذ منها العبرة. لقد كان مقبولا، بعد ذلك، أن يتم تسييس المؤسسة العسكرية في ظل نظام الحزب الواحد في شطري الوطن سابقا، أما في ظل التعددية السياسية والحزبية، فإنه يصبح أمرا غير مقبول، بل وضار بالمصلحة الوطنية العليا وخطرا عليها، ويفقد السلطة الشرعية الديمقراطية المنتخبة أهم أداة الحفاظ عليها، أي المؤسسة العسكرية التي يفترض أن تكون مهمتها الإستراتيجية الكبرى هي حماية السيادة الوطنية والنظام السياسي الديمقراطي التعددي، وأن تدع ميدان السياسة والتحزب والصراع الحزبي للأحزاب وبرامجها، وأن تقف منها على مسافات متساوية, دون انحياز لأي أو ضد أي منها. ويمكن لأي منا أن يتخيل شكل العلاقة الداخلية في المؤسسة العسكرية لو أن الحزبية متاحة لمنتسبيهاّ!! كيف سيكون الحال داخل أي سلاح أو وحدة منها في حالة نشوب أي خلاف بين الأحزاب حول قضية وطنية ما، كيف سيكون حال القوات الجوية، على سبيل المثال، لو أن قائد السرب(س) إصلاحيا، والسرب(ص) مؤتمريا، والسرب(ج) اشتراكيا) والسرب(د) ناصريا، وكان التنافس أو الصراع الحزبي شديدا؟ كيف سيكون حال هذه القوة العسكرية الوطنية المهمة؟ وكذلك الحال بالنسبة للقوى والوحدات الأخرى؟ لاشك بأن القوات المسلحة ستكون في حالة من أللا انضباط، بل والفوضى العارمة، وقد يتقاتل منتسبو السلاح الواحد، لأن التنافس المدني الذي يتم بالأفكار والبرامج والسياسات, سيكون بالنسبة للعسكريين بالدبابات والطائرات والمدافع، لذلك يكون الاحتراف المهني للقوات المسلحة في البلدان الديمقراطية هو الأنسب لكمالها، وللحفاظ على وطنيتها، وتماسكها كجسم صلب غير قابل للاختراق، ولتظل السياج المنيع الذي يحمي الوطن وسيادته واستقلاله ومصالحه العليا. هذا عن الحزبية التي هي نشاط بشري دنيوي يتعامل مع الأفكار والبرامج السياسية الدنيوية البشرية التي تتصل بحياة الناس المعيشية اليومية على الأرض، وهذه مخاطرها على كمال وطنية القوات المسلحة في ظل نظام سياسي تعددي، فماذا عن المذهبية التي تتعلق بالدين والعبادات، وأصولها وفروعها ودعاوى الصحيح والخطأ فيها، وبالآخرة، والجنة والنار، والإيمان والكفر، أي التي تربط بين الله سبحانه وتعالى وبين عباده، وتتصل بسنة نبيه محمد(ص) وأحاديثه، وما هو صحيح منها وما هو محل شك؟، ماذا عن هذه المذهبية التي تم إخراجها قسرا من الضمائر والمساجد ولم يكن يتضرر منها أحد؟ إلى الشارع العام أولا، ثم إلى الشارع السياسي، وبدأت تخوض جدالا علنيا واسعا حول من يتملك الحقيقة في ما يقول ويعتقد، ومن هو بعيد عنها، وعقدت وما تزال تعقد لذلك الحلقات في المساجد، بل والندوات في قاعات خاصة، وفي بعض وسائل الإعلام؟، وصرنا بفعلها نسمع في خطب الجمعة تبادل تهم التفسيق، بل والخروج عن صحيح الدين، في بعض الخطابات, وصرنا نسمع عن مصطلحات لم يكن هناك من يتحدث عنها، من قبيل: الوهابية الضالة، الروافض الكفرة، الشيعة الضالة المضلة، بكل تفرعاتها، صرنا نسمع من يتحدث عن الزيدية وخطرها على النظام الجمهوري، وعن السلفية المتعصبة المتحجرة وخطرها على التقدم الإنساني، إلى آخره من تلك النعوت التي لم يكن يتحدث عنها أحد حتى وقت قريب؟ وتوج كل ذلك بأن أدمت قلوبنا حروب صعدة العبثية التي تسببت في تعميم الحزن والبكاء في الكثير من بيوت اليمن من صعدة إلى المهرة، وأكلت نارها إمكانيات التنمية، والبقية معروفة، وكان في القلب منها هذه النزعات المريضة؟ ماذا عن كل ذلك؟ ماذا لو أن هذه النعرات المذهبية تمكنت من اختراق المؤسسة الوطنية الكبرى" القوات المسلحة"؟ كيف سينظر منتسبو الوحدة الواحدة إلى بعضهم؟ كيف بنا لو أن قائدا عسكريا متعصبا لمذهب، و زميل له متعصب لمذهب آخر؟ كيف سيكون الحال؟ خاصة وأن الكثير ممن يدعون المشيخة في الدين، وهم ليسوا أكثر من جهلاء معممون، عدتهم في ما يقولون التعصب والتفسيق والتكفير والإخراج من الدين، ومصابون بحالة من الفقر المدقع في التسامح، خاصة وان هئولاء قد صار يسمح لهم بأن يعرضون أفكارهم المتطرفة في أوساط القوات المسلحة، التي ما تزال حتى للحظة مؤسسة وطنية بعيدة عن هذا النوع من النزعات الغير صحية التي تضر ولا تنفع؟. إن اليمن غنية بعلماء الدين المعتدلين، الوطنيين، الذين يؤمنون حقا بأن الوطن يتسع للجميع، وأن كل إنسان حر في ما يعتقد بصحته في العلاقة بينه وبين الله عز وجل، ولا يزدرون أو يفسقون أو يكفرون أو ينتقصون من تدين وإيمان أحد، إن اليمن مليئة بمثل هئولاء، وفي القوات المسلحة منهم الكثير، خاصة في سلك الضباط المشبعين بالروح الوطنية العالية، الذين ليس في عقولهم وقلوبهم مكان لأفكار التطرف والنزعات غير الوطنية. إن الوطن والدولة والمجتمع في اليمن بحاجة ماسة إلى المؤسسة الوطنية الكبرى، القوات المسلحة، وإن الحفاظ عليها موحدة ومحصنة من كل أفكار التكفير والتطرف والغلو لهو أمر ملح ويمثل ضرورة قصوى، وأنا أعتقد بأن في تجارب الماضي ما يكفي للعبرة، فالمتعصبون الذين تم تسليحهم واستخدامهم في الماضي ضد الخصوم السياسيين قد صاروا الآن يقضون مضاجعنا ليل نهار، وصرنا نشاهد العشرات من أبنائنا وكوادرنا تسفك دماؤهم في أكثر من مكان في اليمن بسبب حزام ناسف يحمله يائس من الحياة، أو قذيفة صاروخية غادرة، أو كمين في الطريق العام، أو إغارة على مرفق حكومي آمن، أو اغتيال فردي. ف ألا يكفي ذلك عبرة لنحرص على أن تظل قواتنا المسلحة بعيدة عن هذا النوع من الأفكار المضلة؟ وهل ينقصنا المتعصبون؟ الفقراء إلى روح التسامح اليماني المعروف عبر العصور؟ أليست الديمقراطية الحقة هي السبيل الأمثل للتطور الإنساني في هذا البلد؟. أليس من أ وجب واجبات القيادة السياسية والعسكرية إبعاد المتطرفون التكفيريون عن مؤسستنا العسكرية؟. هل يتم التغاضي عن بعض التصرفات الفردية حتى نجد من بين منتسبيها في المستقبل من يقول أن الموسيقى العسكرية ومارشاتها حرام؟ لأنها من المعازف والقيان، وبالتالي تحريم عزف النشيد الوطني، ناهيك عن أي فن آخر؟. هل من يعقل؟ [email protected]