ما طالعته في صغري من أدب الرحلات، مثل “حول العالم في 200 يوم" و"أعجب الرحلات في التاريخ" للأستاذ أنيس منصور و"خواطر مسافر" للدكتور عبدالسلام العجيلي وغيرها من المؤلفات الشيقة.. كلها أججت توقي للسفر.. لكن ما خبرته منه في حياتي لاحقاً، كان مختلفاً.. لم يشبه ما تخيَّلته من خلال قراءاتي، ربما لأن رحلات الاستكشاف والسياحة والاستجمام لا تشبه رحلات العمل والمؤتمرات السريعة المتخمة بالضغوطات والالتزمات والمواعيد، تلك التي ترهقك وتبعثر حياتك وتقوض علاقاتك الاجتماعية، تنخر استقرارك وأعصابك، وما أصعب أن تحشر بيتك ومكتبتك وشؤونك الصغيرة ولحظات حياتك المهمة في.. حقيبة. وها هي حقيبتي، أحملها للمرة الثامنة خلال أقل من شهرين لأسافر خارج البلاد، وكأن الشاعر ابن زريق البغدادي قد وصف حالي حين قال: ما آب من سفر إلا وأزعجه رأي إلى سفر بالعزم يَزْمَعَه أتوكل على الله، ومع أولى لمسات أشعة الشمس فوق جبين دمشق التي لم تصح بعد.. أجرجر نفسي بصعوبة، لأترك دفء الفراش المريح وأسابق الفجر إلى المطار. غالبتُ نعاسا تبثه رتابة إيقاع السيارة التي تتهادى في سكون الشوارع الخالية، داعب قلبي الحنين لأسرتي الصغيرة النائمة، فحاولت أن أشغل نفسي بالتفكير.. “كان الله في عون من يعملون في مجال الطيران وعائلاتهم".. فكرتُ، مشاق السفر المتكرر وفراق عقب فراق.. وكيف إذاً بحياة الرحالة الأوائل كابن مجاور، مبارك بن لندن، ونيبور وغيرهم؟!.. لا بد أن الطموح والرغبة في اقتحام المجهول وحب المغامرة وأحيانا خدمة العلم أو السياسة، هوَّنت التعب ومشقة الغربة على هؤلاء الذين اختاروا أن يسعوا لاستكشاف آفاق الأرض ومجاهلها، مقدمين في بعض رحلاتهم، قبل كولومبوس وبعده، معلومات هامة كانت أساس إنجازات عظيمة في مختلف المجالات. ولعل الموقع في قائمة الرحالة الطويلة، يصتدره “ابن بطوطة"، المؤرخ الجغرافي الذي قطع في رحلاته المتواصلة مسافة نحو 120.000 كم، بدأها في مقتبل عمره سنة 1324م من مسقط رأسه “طنجة" قاصداً لحج، ثم جاب الأمصار مشارقها ومغاربها، وسجل إلى جانب وصفها الجغرافي، ملاحظاته عن طباع شعوبها وتقاليدهم وحياتهم الاقتصادية، في مؤلفه “تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار". وهل كان الرحالة الطنجي يستمر في ترحاله ثلاثين عاما لو لم يكن في السفر ما يُعشق؟.. ما ينعش القلب ويجدد الأحاسيس ويبعد الملل والكآبة، على رأي أبي تمام: وطول مقام المرء في الحي مُخلِقٌ لديباجتيه فاغترب تتجدَّدِ فإني رأيت الشمس زيدَتْ محبة إلى الناس أن ليست عليهم بسرمَدِ المتعة في الرحلة ذاتها وليست في الوصول.. ومتعة أي رحلة- في الأساس- هي الصحبة، ولذلك يقولون: “الصديق قبل الطريق"، وبلغة الشاعر المعولي العماني: ولا تسافر مع الأنذال في طرقٍ وكن مع المرتضى إن كنت ذا سفر ورفقة السفر فرصة لا تضاهى لاكتناه أعماق الناس، ومحك لاختبار جوهرهم، نقول في أمثالنا الدارجة “قالوا: هل تعرف فلاناً؟، قال: نعم، قالوا: هل سافرت معه؟، قال: لا، قالوا: إذاً فأنت لا تعرفه". ينتشلنا السفر من دواماتنا الصغيرة، يشرع نوافذ نبصر منها اتساع العالم، يذكّرنا أننا جزء لا متناهي الضآلة في كتلته اللامتناهية الضخامة، يدعونا ألاَّ نهرق بغباء عمراً ثميناً يتلاشى بسرعة محزنة مع دوران الكرة العملاقة، في أقل من برهة من عمر الكون السرمدي.. والنأي عن “من" و “ما" اعتدنا، يطلق سراح العقل، فنتأمّل بواقعية في حقيقة “سفر كبير" بدأناه يوم وصلنا هذه الدنيا، ويقول عنه ابن أبي البشر: ونحن سفر مطايانا إلى أمد أعمارنا وفنون العيش أسفار لا ينفع المرء إلا ما يقدمه لا درهم بعده يبقى ولا دار أتوقف عن الاسترسال في هذه الأفكار وقد وصلنا المطار.. أتأمل من خلال الواجهة الزجاجية الكبيرة طائرات مختلفة الأحجام والأشكال، وأفواجاً متنوعة من البشر تسعى في مختلف الاتجاهات.. أحمل حقيبتي الصغيرة متوجهة إلى بوابة المغادرين، وأنا أدندن- كعادتي قبل كل سفر- بصوت خفيض: “يا وابور قللي رايح على فين".. ودون أن يخبرني “الوابور" وأينما كانت الوجهة ففي كل مرة أسافرة فيها يزداد اقتناعي أن الشاعر الذي قال: “في السفر خمس فوائد"، لم تكن لديه الخبرة الكافية بالسفر، يبدو أن ابن وكيع التنّيسي كان دبلوماسياً للغاية، فأغفل خمسين سلبية وأتى بخمس إيجابيات، أو ربما كان شديد التفاؤل بحيث لم ير إلا القليل المليء من الكأس. بل وربما ارتبط كلام صاحبنا بزمن كان السفر فيه سفراً “حقيقيا"، فإذا كانت التكنولوجيا قد سهلت حياة الإنسان، فقد أفقدتها برأيي- من زاوية أخرى- بعض ملامحها الإنسانية، والسفر الشاق لأيام أو شهور فوق الجمال أو العربات، كان يمنح السفر معناه ومذاقه ومتعة مغامرته وبهجة وصوله، أما اليوم فبإمكان بعضنا أن يتناول الغذاء في بلد ويتعشى في آخر، دون أن يشعر بفارق المسافات، لا سيما إذا كان نزيل أحد الفنادق الكبرى، وكلها تتشابه.. وتلغي هوية المكان. من “مصباح علاء الدين" المعاصر، التطور العلمي، خرجت التكنولوجيا مارداً سحرياً، يخدم الإنسان ويوفر وقته، يذلل له الصعوبات ويخفف عناء التفاصيل، يعتصر العلم ويسخر تراكم خبرات الأولين، ليحول- قدر الإمكان- حياتنا القصيرة إلى رحلة مريحة ممتعة، وشتان بين من استوعب هدف العلم الحقيقي النبيل، وبين من أفرغه من محتواه الحضاري والإنساني، مبدلاً نعمته نقمة، ليدمَّر بدلا من أن يعمّر، وربما ما زال الندم يأكل العالم “نوبل" في قبره، إذ لم تفلح الجوائز المالية لمؤسسته الحضارية الضخمة على مر السنين، في محو وصمة اختراعه متفجرات الTNT، ولن تكفر أبداً عن قتلها ملايين البشر. تكنولوجيا رائعة وأحياناً.. “مروعة" بإلغائها- مع المسافات- أموراً أخرى منها الخصوصية، فقد أصبح مألوفاً – مع انتشار خدمة الهاتف الدولية الجوالة (الرومينغ)- أن تتصل بجارك صباحا على هاتفه المحمول، فيحرجك أنك أيقظته في ليل الطرف الآخر من الكرة الأرضية (نتيجة فارق التوقيت).. “الحزام من فضلك".. ألبي طلب المضيفة اللطيفة.. واستعد للإقلاع.. ساعات قليلة ونكون في قارة أخرى على بعد شاسع.. أليس الأمر مذهلاً؟.. تكنولوجيا تبتلع المسافات.. تلغي حدود المكان والزمان.. بشكل بات يصعب استيعابه، تشغل التلفاز فتشاهد بأم عينك ما يحصل في ذات اللحظة على بعد آلاف الأميال، أو تنقل لك المركبات الفضائية صور القمر والمريخ حيث لم يصل حتى خيالك، فتسبح باسم من بإذنه أتي بعرش بلقيس إلى سليمان “قبل أن يرتد طرفه". وفي حين كانت الرسالة في القرون الماضية تستغرق أشهراً لتنتقل من بلد إلى آخر مجاور له، صار الخبر اليوم يعمّم على معظم سكان العالم في دقائق، عبر شبكات أجهزة الإعلام ووسائل الاتصال العبقرية. وبالتأكيد فأجدادنا لم يتصوروا يوما أن سفينة الصحراء (الجمل) وسيلتهم الرئيسية في التنقل، ستتطور إلى سفينة الفضاء في عصرنا، وألاَّ يكون أي مكان عصياً على وسائل مواصلاتنا العصرية السريعة، ولو عاش المسكين “كعب بن زهير" في أيامنا، لما أوجع قلوبنا بقصيدته الحزينة المعروفة عن صعوبة الوصول إلى حبيبته سعاد: أمست سعاد بأرض لا يبلغها إلا العتاق النجيبات المراسيل وكان ليكفيه حجز تذكرة على أي طائرة متوجهة إلى أقرب مدينة من مكان إقامة الآنسة سعاد، بل وربما كان استمتع في رحلته إليها، على متن الطائرة الفرنسية العملاقة الحديثة (إيرباص 380)، مسترخيا على حافة أحد مسابحها، ومتجولاً بين أسواقها ومطاعمها ومختلف أسباب الرفاهية المطلقة فيها.. فوق الغيوم. ينتشلني صوت ربان الطائرة من أفكاري، مردداً الكلمات المعتادة قبل الإقلاع، أغوص في مقعدي، أغمض عيني وأتمتم: “سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين..".