صادق ناشر- بعد نحو ستة أشهر على بدء الاحتجاجات المطالبة بإسقاط النظام اليمني ورحيل الرئيس علي عبدالله صالح، دخل اليمن بكل فئاته وشرائحه السياسية والشعبية والعسكرية في أتون صراع دموي حاد، سقط فيه مئات القتلى وآلاف الجرحى، وغاب الحوار الجاد بين أطراف العملية السياسية، أي السلطة والمعارضة، بعد أن ظل النظام يناور على عامل الوقت لاستهلاك قوة المعارضة ومعها الشارع الثائر المطالب بالتغيير الجذري والشامل للنظام. وعوضاً أن يقدم النظام على حل الأزمة بموجب المبادرات العديدة التي قدمت له، أو أن يطبق بشكل فعلي وجاد، المبادرات التي قدمها هو نفسه لمعالجة الأزمة، لجأ إلى حل هذه الأزمة على طريقته الخاصة، إذ أنه اختار الطريق الأسهل، لكنه المدمر، لمعالجة الأزمة التي اعتقد أنها مفروضة عليه، مع أن المطالبة بالتغيير لم تعد مطالب الشارع أو النخب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، بل هي مطالب قيادات وكوادر مستنيرة في حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم نفسه، التي ترى أن الوقت قد حان للتغيير بحكم أن التغيير سنة من سنن الحياة. كانت الاستجابة للمطالب الشعبية والسياسية بالتغيير أمراً ضرورياً ليعبر اليمن، المثقل بالمشاكل والأزمات التي تطوقه من أكثر من مكان، إلى الوضع الآمن، عوضاً عن الدخول في مواجهات مع الناس، دمرت خلالها إمكانات البلد الفقير أصلاً، كما أزهقت الأرواح وأدخلت البلد في حسابات الطامعين من القوى الخارجية، التي لا تبحث سوى عن مصالحها، وقد خدمتها الاشتباكات السياسية والخلافات القائمة بين السلطة الممسكة بالحكم ومؤسساته منذ أكثر من ثلاثة عقود، تحت مبرر “الحفاظ على الشرعية الدستورية"، بما يعني تأجيل التغيير إلى وقت آخر يكون مناسباً لخطط النظام نفسه. منذ ستة شهر، بداية المواجهات بين السلطة ومعارضيها، كان اليمن في آخر سلم الأولويات لكافة الأطراف، بخاصة السلطة التي أصرت على أن تبقي الصراع في وعائه الدموي، عوضاً عن إحداث انفراج حقيقي للأزمة تخرج البلاد من احتقان ظل يتفاعل لسنوات طويلة، وجاءت ثورتا مصر وتونس لتوقظه من جديد ولتمنحه صبغة ثورية، بحيث انتقل هذا الاحتقان من “الغرف المغلقة"، أي بين السلطة والمعارضة، إلى الشارع، الذي وجد نفسه لأول مرة في مواجهة مع المشروعين السياسيين للسلطة والمعارضة معا. مطلب الشارع كان منذ البداية واضحاً، فهو يريد التخلص من تركة ثقيلة خلفها النظام خلال 33 سنة من الحكم، وجاءت مطالبه ثورية وسقفها مرتفع كثيراً عن سقف المعارضة التي ظلت طوال السنوات الماضية، وحتى الآن، تسعى من أجل إحداث تغيير في النظام بأدوات سياسية، ولم تستجب المعارضة إلى نداءات الشارع الضاغط باتجاه نسف مؤسسات الحكم بكل أدواتها إلا بشكل متأخر عندما شعرت إنها يمكن أن تفقده، لأنه صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في التغيير. كان الأحرى بالنظام، وهو يرى ثورة الناس بخروجها إلى ساحات التغيير أن يزن الأمور من زوايا عدة، حتى في إطار المكاسب التي كان يمكن أن يحققها فيما لو أقدم على تغيير حقيقي في السلطة، بخاصة أن النظام ليس حديث النشأة حتى يمكن الحديث عن مؤامرات تحاك ضده، كما أنه ليس في موقع "الممانعة" لدول أخرى، حتى يمكن القول إنه مستهدف من قبلها، فعلى العكس، ظل النظام والرئيس صالح على الدوام صديقين للجوار الإقليمي وللدول العظمى، والدليل على ذلك أن الولاياتالمتحدةالأمريكية لا تجد تسهيلات كالتي تجدها من قبل النظام اليمني، فالطائرات الأمريكية تجوب الأجواء اليمنية وتقصف أهدافاً تحت حجة محاربة الإرهاب، فتقتل أشخاصاً، الكثير منهم أبرياء، وشواهد ضرب منطقة المعجلة في أبين والصعيد في شبوة أواخر العام 2009 لا تزال ماثلة أمام أعين اليمنيين، كما أن الطائرات بلا طيار لا تزال تضرب أهدافاً في أكثر من موقع في اليمن. ومن يمكنه أن ينسى عمليات الاغتيالات التي نفذتها الطائرات الأمريكية واستهدفت مواطنين يمنيين في مأرب بعد أشهر قليلة من أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول في الولاياتالمتحدةالأمريكية العام ،2001 من أبرزهم أبو علي الحارثي وغيره، إضافة إلى استهداف علي جابر الشبواني خلال العام الماضي عندما كان في مهمة رسمية للتفاوض مع مطلوبين من القاعدة في محافظة مأرب. بمعنى آخر أن النظام اليمني لم يكن يوماً "شوكة" لأي قوة عالمية حتى يمكن الحديث عن “مؤامرة" دأبت الأنظمة العربية كلها على ترديدها في إطار الحديث عن المطالبات الشعبية بالتغيير، فقد كان التغيير في اليمن إذا ما حصل بأدوات سلمية وبقناعة من النظام الذي عشش فيه الفساد وتراكمت فيه الأخطاء، أن يكون بطريقة أفضل مما يحدث اليوم، والسؤال هو ماذا حصد النظام من وراء التعنت في الاستجابة لمطالب الناس، وهي في الأصل مشروعة، بل إنها في صلب التجديد للنظام، لم يحصد النظام ومن يقف وراءه من السياسيين المحنطين والبطانة السيئة من مستشارين ومنتفعين سوى الخراب والدمار، فتحول اليمن إلى دولة فاشلة، غابت عنه أبسط مقومات الدولة، فالدولة التي لا توفر لمواطنيها الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه ومشتقات نفطية وتتوقف فيها المواصلات، فإنها تصنف ب “الدولة الفاشلة"؛ فالكهرباء لا تزال غائبة عن منازل الناس بواقع عشرين ساعة من أصل 24 في العاصمة، أما في بعض المحافظات فإن الكهرباء مقطوعة منذ عدة أشهر، والحال ينطبق على خدمات المياه والصرف الصحي والمشتقات النفطية، إذ توقفت الحياة في العاصمة صنعاء وبقية المناطق في ظل انعدام هذه الخدمات الضرورية للناس. غياب الحوار ظل الحوار بين القوى السياسة غائباً، ولم تقم بإحيائه إلا الانتفاضة الشعبية التي جددت الأمل في صحوة حقيقية من أجل التغيير، فقد كانت الحوارات بين السلطة غالباً ما تتعثر بسبب الطريقة التي كان يدير بها الرئيس صالح هذه الحوارات، فقد كان الرئيس صالح يجيد تماماً لعبة المناورات السياسية، فيما كانت المعارضة تبدي بعض المقاومة، لكنها مقاومة لا ترتقي لحد تهديد موقع الرئيس وسطوة مؤسسات الحكم التي كانت مهيمنة على كافة مفاصل الدولة. جاءت موجة التغيير التي بدأت في تونس وانتقلت إلى مصر لتصل إلى محطتها الثالثة في اليمن، وفي الحقيقة فإن أطرافاً عدة لم تكن مهيأة لمثل هذا التغيير الذي عصف بكل شيء، وعوضاً أن تعمل السلطة على استيعاب ما حدث في كل من مصر وتونس، نزلت إلى نفس الملعب الذي لعب فيه النظامان التونسي والمصري، وكان عنوانه القمع عوضاً عن الحوار، وكان نتيجة ذلك أن سقط مئات القتلى وآلاف الجرحى في معظم محافظات اليمن، أبرزها عدن، تعز، عمران، أرحب، الحديدة، إب والعاصمة صنعاء، وجاءت جمعة الكرامة في الثامن عشر من شهر مارس/آذار الماضي لتظهر حقيقة أن الأنظمة الدكتاتورية والقمعية متشابهة في كل شيء. ولم يستجب النظام، ظاهرياً على الأقل، للحوار لحل الأزمة، إلا عندما شعر بأن قوته وحجته على الأرض بدأت بالانحسار لمصلحة شباب ساحات التغيير، فلم يكن يعتقد النظام أن ملايين المواطنين يمكن أن يخرجوا إلى الشوارع للمطالبة بإسقاطه ورحيل الرئيس علي عبدالله صالح، على الرغم من أن شواهد الغضب الشعبي من سياسة النظام القائمة كانت بادية وظاهرة للعيان، فالحروب الست في صعدة التي لم يحقق فيها النظام أي انتصار على جماعة الحوثيين كانت دليلاً على ترهل النظام وعدم قدرته على حسم مواجهات مع مئات من أنصار الحوثي، قبل أن تحولهم الحروب الست إلى قوة مهابة، وكان الوضع في الجنوب يغلي أكثر من أي وقت مضى، ولم يستطع النظام أن يثبت ما كان يدعيه أن الوحدة غالية في قلوب الجنوبيين وأنهم "وحدويون أكثر من الشماليين"، بعد أن تزايدت النزعة الانفصالية في الجنوب في السنوات الأخيرة أكثر من أي وقت مضى. فوق ذلك كله كان الظلم الاجتماعي قائماً في كل بيت يمني، وكانت هناك مناطق لا تزال تعيش أوضاعاً صعبة شبيهة بأوضاع القرون الوسطى، بينها مناطق قبلية غابت عنها التنمية رغم تمتعها بالثروات الهائلة، مثل مأربوشبوة والجوف وصعدة وغيرها . إضافة إلى ذلك كان التفرد في صناعة القرار السياسي والاجتماعي وغياب الشراكة السياسية الحقيقية واحدة من الأخطاء القاتلة التي وقع فيها النظام طوال السنوات الماضية، خاصة أنه قام على شراكة في "الحكم والجغرافيا" العام 1990 عند الإعلان عن قيام دولة الوحدة اليمنية، وعوضاً عن معالجة الأخطاء التي وقع فيها النظام بعد حرب العام 1994 واستبعاده للشريك السياسي القادم من الجنوب عمق من أدوات الحكم التي كانت سائدة في الجمهورية العربية اليمنية، وعاد صالح إلى التفرد بشكل كامل في السلطة بإلغائه مجلس الرئاسة الجماعي وإلغاء شركاء الوحدة، والأسوأ من ذلك أنه أطلق أيدي أنصاره للتحكم بخيرات الجنوب وثرواته، وعوضاً عن تعميق الوحدة التي ضربت في الحرب العبثية العام ،1994 تم العمل على هدم ما تبقى منها لدى الجنوبيين فظهرت نزعة الانفصال أكثر وأكثر، إلا أن من حسنات الانتفاضة الأخيرة أنها وحدت اليمنيين شمالاً وجنوباً وخفت إلى حد ما أصوات المطالبين بالانفصال. مع ذلك فإن النظام لا يزال قادراً على إنقاذ اليمن من شر التفكك الذي يظهر جلياً في المظاهر التي تسود بعض المناطق الجنوبية، بخاصة مع سيطرة الجماعات المسلحة على أبين، وغياب الدولة عن كثير من المناطق، مثل لحج، الضالع، شبوة، صعدة، مأرب والجوف، والدليل على ذلك أنها لم تعد قادرة على القيام بدورها بشكل كامل بالقضاء على المتمردين الذين تقول إنهم يقومون بتنفيذ أعمال تقطع لقاطرات النفط والغاز وتحطيم أبراج الكهرباء في مأرب وغيرها من الأعمال. في ظل هذا الوضع الذي ينذر بدخول اليمن مرحلة جديدة من تاريخه، تبدي كافة الأطراف في البلد، إذا ما استثنينا شباب ساحات التغيير، استعدادها للحوار من أجل إيجاد مخرج حقيقي للأزمة تحت ضغوط الدول الإقليمية والولاياتالمتحدةالأمريكية والاتحاد الأوروبي، والخطوة المطلوبة أن يؤمن النظام بأن التشبث بأدواته القديمة هو الذي يمكن أن يقود البلاد إلى حمام دم. الخروج من المأزق في تحركاتها الأخيرة تبدو صنعاء مقتنعة بأن الحل لابد أن يخرج من رحم النظام نفسه، أي أنها تريد أن يكون الحل بوسائل وطرق دستورية، وهذا يعني أن تتم عملية نقل السلطة من الرئيس صالح إلى نائبه بطريقة سلمية وهادئة وبوحود الرئيس صالح في اليمن لا خارجه، على الرغم من أن العديد من القوى داخل النظام نفسه لا يزال يرفض مثل هذا الانتقال، لأنه في نظرهم يعتبر “انقلاباً على الشرعية الدستورية" . وترى هذه القوى أن دعوة مجلس الأمن الدولي الأخيرة لأطرافَ الأزمة للجلوس على طاولة الحوار جعلت هذه الأطراف أمام حقيقة أن كافة الحلول والمعالجات المطلوبة لكل الإشكاليات والتداعيات التي نجمت عن هذه الأزمة، لايمكن أن تأتي إلاّ من الداخل وعبر الحوار وصدق النوايا وحرص الجميع على تجنيب بلادهم ويلات الانقسام والفوضى والانفلات والاضطراب والتوتر، والعواقب المترتبة على ذلك . يفهم من ذلك أن النظام بات على قناعة من أن انتقال السلطة أو على الأقل التغيير في شكل النظام لا بد أن يأتي عبر الحوار، لكن المشكلة التي لا تزال عائقاً أمام تحقيق ذلك يكمن في الرئيس علي عبدالله صالح، الذي تتضارب الأنباء حول عودته إلى اليمن من المملكة العربية السعودية حيث يتعالج من جراء الهجوم الذي استهدفه في مسجد دار الرئاسة في الثالث من شهر يونيو/حزيران الماضي، فالرجل لم ينقل سلطاته إلى نائبه عبدربه منصور هادي، الذي لا يزال يمارس مهامه كنائب رئيس فقط. وعلى الرغم من أن نجل الرئيس صالح، وهو العميد أحمد علي، الذي يقود قوات الحرس الجمهوري والقوات الخاصة أكد أنه يأتمر بتوجيهات النائب بحكم التراتبية العسكرية، إلا أن العليمين ببواطن الأمور يؤكدون أن النائب لا يجد المساحة الكافية للتحرك من أجل إيجاد مخرج حقيقي للأزمة في ظل غياب الرئيس صالح، بل إن بعض رموز النظام يرى أنه من غير الأخلاق الحديث عن نقل السلطة من صالح إلى نائبه وهو على فراش المرض، وهو ما صرح به نائب وزير الإعلام عبده الجندي، الذي عاد وأكد أن عملية نقل السلطة لا بد أن تتم في ظل وجود الرئيس صالح نفسه، ما يعني أن الأزمة السياسية في البلاد سوف تطول، بخاصة مع الوضع الصحي الصعب للرئيس صالح. وفي وقت يتحدث فيه العديد من المراقبين عن مسارين لحل الأزمة في اليمن إذا ما عاد صالح إلى اليمن بأي شكل كان، سواء بنقل السلطة إلى نائبه مباشرة عبدربه منصور هادي، أو تسليم هذه الصلاحيات إلى مجلس النواب، وهو ما يعني تعديلاً جوهرياً في المبادرة الخليجية، فإنه من المؤكد أن اليمن يعيش مخاضاً عسيراً يتمثل في اقتناع أطراف الأزمة كافة في إيجاد مخارج سياسية تكون قادرة على تنفيس الاحتقان القائم أو إدخال البلاد في دوامة جديدة من العنف والدمار، والذي لن يسلم من تبعاته أي طرف، وسيدخل اليمن في إطار ترتيبات أخرى لن تكون في صالح أحد. وعلى اللاعبين السياسيين كافة أن يدركوا أن الطريق إلى الخراب قصير، تماماً كما هو الطريق إلى السلم والأمان، إذ كلما سرّعوا في الحلول السياسية، كان ذلك أفضل لليمن ولأهله الذين يستحقون حياة أفضل بعد قرون من الحروب والصراعات المدمرة، وكلما تأخروا في اتخاذ القرارات الحاسمة كان ذلك مدعاة للقلق من هرولة البلد نحو المجهول.